الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

محتار في أولادي: إن بقيت في الغربة ضاعو وإن عدت لهم جاعوا!!

السؤال

السلام عليكم وحمة الله وبركاته.
وددتُ أن أستشيركم في أمري، بارك الله بكم.

أنا رجلٌ سوريٌّ أعمل في شركة مقاولات في السعودية منذ زمن، اضطررتُ لإرسال زوجتي وأولادي الخمسة إلى سوريا؛ لإكمال تعليمهم وتخفيف النفقات، ثم أُفسدت عليَّ زوجتي مع غيابي عنها وتساهلي في إنفاقها، وفساد البلاد حينها، ورغم تفانيّ لاحقًا في إصلاحها، لكن دون جدوى؛ فتركتْ البيت منذ سنتين، وسافرتْ إلى أهلها في السعودية دون رجعة، وعملتْ هناك، فوجد أهلُها موردًا يحول دون إعادتها إلى أبنائها، وقدر الله وما شاء فعل.

تزوّجتُ غيرها بعد يأسي من صلاحها، ورُزقتُ بطفل، بينما بقي أولادي في بيتي بدمشق دون أبٍ ولا أم.

بذلتُ قصارى جهدي ومالي في حفظهم، وصرتُ أزورهم كل بضعة أشهر، حتى أوشك مالي على النفاد، وأنا اليوم في حيرةٍ وألم، إن بقيتُ في الغربة ضاعوا، وإن عدتُ إليهم جاعوا، ولا يُمكن إعادتهم إليَّ، فأيّهما أولى شرعًا: البقاء للعمل، أم العودة إليهم رغم تردّي أحوال البلاد، متوكّلًا على الله؟ علمًا أن أكبرهم عمره 18 عامًا، وأصغرهم 7 سنوات، وبينهم بنتٌ وحيدة عمرها 9 سنوات، وأنا عمري 42 عامًا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ سائل حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بك -أخي الكريم- في "إسلام ويب"، وردًا على استشارتك أقول مستعينًا بالله تعالى:

إن ما تمر به من آلام جراء ما حصل من زوجتك وفراقك لأبنائك، وعدم قدرتك على الجمع بين البقاء معهم والإنفاق عليهم -بحسب استشارتك- لهو أمر مقدر عليك من قبل أن تخلق؛ فكل شيء بقضاء وقدر، قال ربنا سبحانه في كتابه الكريم: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، وقال عليه الصلاة والسلام: "قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء"، ولما خلق الله القلم قال له: "اكتب"، قال: "وما أكتب؟"، قال: "اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة"، وقال عليه الصلاة والسلام: "كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس"، والكيس: الفطنة.

الجزاء يكون على قدر البلاء؛ فإن عظم البلاء يتبعه عظم الجزاء، والابتلاء عنوان محبة الله للعبد؛ يقول عليه الصلاة والسلام: "إنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ"؛ فعليك أن ترضى بقضاء الله وقدره، وحذارِ أن تتسخط، وإلا فالجزاء من جنس العمل.

إنني أشعر بألمك وحيرتك؛ فما تمر به من فراق أسرتك ومعاناتك في تربية أولادك عن بعد هو اختبار صعب، فعليك بالصبر ومجاهدة النفس، والمقاربة والتسديد قدر الاستطاعة، مع الأخذ بالأسباب التي تنجيك بين يدي الله تعالى.

بعد التأمل في استشارتك واستحضار أبعادها الشرعية والأسرية والتربوية، أرى أن المسألة تدور على تحقيق مقاصد الشريعة في حفظ النفوس والنسل والمال، مع مراعاة قاعدة: "دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما".

من خلال تتبع كلام وفتاوى العلماء في قضايا الهجرة والعمل للإنفاق على الأسرة، يتضح أن الواجب الشرعي الأول هو حفظ الأبناء من الضياع التربوي والديني والأخلاقي، خاصة مع وجود بنت في التاسعة من عمرها، ولم تذكر لنا أين يعيشون، وهل هنالك رقابة ومتابعة من قبل أي أحد من أقاربك؟

الذي أنصحك به هو أن تعود إليهم وتبقى بجوارهم، والرزق مقدر ومقسوم، ولن يضيعك الله إن عملت بالأسباب، ورجحت عودتك على بقائك في بلد الغربة لكسب الرزق؛ وذلك للأسباب الآتية:

1- وجوب رعاية الأولاد شرعًا: فمسؤوليتك عنهم عظيمة، خصوصاً في عمر أبنائك؛ فالجميع في مرحلة حرجة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}، وقال عليه الصلاة والسلام: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول"، والرعاية لا تقتصر على المال، بل تشمل التربية والحماية والمرافقة.

2- إنفاقك عليهم فرض عين، ولكن حفظ دينهم وأخلاقهم وأمنهم أعلى درجة من حفظ مالهم أو مستوى معيشتهم؛ فالجوع البدني يمكن تداركه، لكن جوع القلب والعقل والأخلاق قد يؤدي إلى فساد لا يصلح.

3- لا يجوز لك شرعًا ترك أولادك في هذه السن بدون وصي أو راعٍ مباشر، وقد نص العلماء على أن: "ترك الأولاد دون رقابة من أكبر الكبائر، وإنفاق الأب عليهم من بعيد لا يسقط عنه واجب الحضور والتربية إن كان قادرًا على الانتقال".

4- بحسب استشارتك فإن أكبر أولادك في الثامنة عشرة من عمره، وهذا الولد قد يكون عونًا لك في الرعاية، ولكن لا يُعوَّل عليه في تربية إخوته الصغار، خاصة البنت؛ فوجودك بينهم سيمنع انحرافهم، ويحفظ بقية مالك من تبديدهم له دون وعي.

5- التوكل على الله لا ينافي الأخذ بالأسباب، وعودتك لأبنائك والبحث عن فرصة عمل في بلدك -ولو بدخل أقل مما تجده في بلد الغربة- هو أخذ بالسبب مع التوكل، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز" (رواه مسلم)، وقال: "اعقلها وتوكل".

وسأضع بين يديك خيارات عملية مقترحة:

أ- العودة فورًا إلى بلدك، والحمد لله أن الوضع صار فيها أقرب إلى الاستقرار؛ فقم بالبحث عن أي عمل في سوريا ولو كان دخله أقل، فقد روى البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيّع من يقوت"، والأولى أن لا تضيّع من تربي.

ب- في مرحلة ترتيب أوراقك للعودة، لا بد أن تبحث عن أحد أقاربك المحبين لك ليبقي أولادك عنده حتى تعود؛ كي يقل الخطر على الأبناء.

ت- لا أدري ما العمل الذي تشتغل به مع الشركة في بلد الغربة، والمطلوب منك أن تنظر هل بإمكانك العمل معهم أو مع شركة أخرى عن بعد؛ فكثير من الشركات تحبذ أن يكون العمل في بعض الوظائف بهذه الطريقة، والمطلوب منهم هو الإنجاز وليس الحضور.

ث- تواصل مع أولادك في هذه الفترة بشكل يومي (هاتفيًا أو عبر الإنترنت) لتطمئن عليهم وتوجههم؛ فذلك أقل ما يتوجب عليك.

من القواعد الشرعية الموازنة بين المصالح والمفاسد؛ فبقاؤك لطلب الرزق مصلحة لك ولأبنائك، وتركهم دون رعاية وتربية ونصح مفسدة عظيمة، ولذلك فالقاعدة تقول: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"؛ فتفويت التربية الراشدة وخطر الانحراف على الأولاد -خاصة في غياب الرقابة- قد يكون أعظم ضررًا من فقر مادي مؤقت بل موهوم، فقد ترجع لبلدك ويفتح الله عليك، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه.

الشريعة الإسلامية تُراعي "حفظ النسل" كمقصد عالٍ، ولا يجوز التفريط فيه، وجودك بين أولادك سيعيد لهم الاستقرار النفسي والعاطفي، وسيمكنك من متابعة تعليمهم وتوجيههم.

استعن بالله ولا تعجز، وأكثر من التضرع بالدعاء بين يدي الله تعالى مع تحين أوقات الإجابة، وخاصة في الثلث الأخير من الليل وأثناء السجود، وسل ربك أن يهديك لأقوم السبل، وأن ييسر أمرك، ويرزقك من حيث لا تحتسب، وأن يوفقك للجمع بين طلب الرزق وتربية أبنائك في بلدك، وتذكر قول الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}.

عليك أن تفكر في البدء بمشروع مناسب في بلدك، وما أكثر المشاريع التي يمكن أن تنجح، خاصة في بلد يحتاج لمشاريع تجارية وإعمارية.

أكثر من دعاء ذي النون؛ فقد صح في الحديث: "لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَاْنَكَ إِنِّيْ كُنْتُ مِنَ الْظَّاْلِمِيْنَ"، فما دعا به أحد في شيء إلا استجاب الله له؛ يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدعُ بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له".

أكثر من الاستغفار والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فذلك من أسباب تفريج الهموم، وتنفيس الكروب، ومغفرة الذنوب؛ يقول عليه الصلاة والسلام: "مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ"، وقال لمن قال له أجعل لك صلاتي كلها: "إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ".

أكثر من الأعمال الصالحة؛ فهي سبب لجلب الحياة الطيبة كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

في الختام -أخي الكريم-، أنت في مرحلة صعبة، ولكن الله مع الصابرين المحتسبين، اجعل همك رضا الله وحفظ دين وأخلاق أولادك، وثق أن الرزق بيد الله، وقد تكفل به لمن اتقاه.

أسأل الله أن يفرج همك، وييسر أمرك، ويجمع شملك بأولادك على خير وطاعة، ويرزقك من حيث لا تحتسب، ونسعد بتواصلك.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً