الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا حجة في إقرار النبي على أفعال بعض الصحابة على جواز الابتداع

السؤال

هناك من يرى أن البدعة تكون حتى في الدين ولا إشكال عنده ويستدل بأدلة كثيرة، ومنها أن بلالا كان يتوضأ لكل نقض وضوء، فسمع النبي وطأ خفيه في الجنة. ومنها زيادة: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا، ومنها أن الأذان شرع من رؤيا لأحد الصحابة الخ الخ. فما مدى صحة هذا القول وكيف نرد عليهم؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فليس عصر الصحابة رضي الله عنهم كغيره من العصور، فإن عصرهم هو زمان التشريع، ولا يقر فيه على باطل، ولذلك استدل جابر رضي الله عنه على جواز العزل بكونهم كانوا يعزلون في هذا الزمان، فقال: كنا نعزل والقرآن ينزل. متفق عليه. قال الحافظ ابن حجر: كأنه يقول: فعلناه في زمن التشريع، ولو كان حراما لم نقر عليه، وإلى ذلك يشير قول ابن عمر: كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا هيبة أن ينزل فينا شيء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم تكلمنا وانبسطنا. أخرجه البخاري. اهـ.

وفي ذلك دلالة واضحة على عصمة عصر التشريع من الإقرار على الخطأ، فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وليست هذه الميزة لأحد بعد انقطاع الوحي بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

وعلى ذلك فالحجة في الحقيقة ليست في أفعالهم المجردة، بل الحجة في إقرار صاحب الشرع لهم، فهذه الأمور المذكورة في السؤال سنة، من قبيل ما يعرف بالسنة التقريرية، وليس في ذلك دليل على جواز الابتداع، ويبين ذلك أن بعض الصحابة اجتهدوا في فعل أنواع من الطاعات والحسنات فلم يقرهم النبي صلى الله عليه وسلم، كما في قصة النفر الثلاثة الذين قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي. متفق عليه. ولم يكن ما التزموه إلا فعل مندوب، أو ترك مندوب تفرغا لمندوب آخر أولى منه في نظرهم، ومع ذلك جاء الحكم العام منه صلى الله عليه وسلم إرشادا للأمة: فمن رغب عن سنتي فليس مني. فهذا هو الأصل أن يبحث العبد عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويلتزمها دون إفراط ولا تفريط.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن هذا وضع ابن عمر يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم، وتعريف ابن عباس بالبصرة وعمرو بن حريث بالكوفة، فإن هذا لما لم يكن مما يفعله سائر الصحابة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم شرعه لأمته، لم يمكن أن يقال: هذا سنة مستحبة، بل غايته أن يقال: هذا مما ساغ فيه اجتهاد الصحابة، أو مما لا ينكر على فاعله، لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد، لا لأنه سنة مستحبة سنها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، أو يقال في التعريف: إنه لا بأس به أحيانا لعارض إذا لم يجعل سنة راتبة. وهكذا يقول أئمة العلم في هذا وأمثاله، تارة يكرهونه، وتارة يسوغون فيه الاجتهاد، وتارة يرخصون فيه إذا لم يتخذ سنة، ولا يقول عالم بالسنة: إن هذه سنة مشروعة للمسلمين. اهـ.

والغرض أن السنية إنما ثبتت بتقرير النبي صلى الله عليه وسلم، وأما قبل ذلك فغاية الأمر هو الحكم بأن هذا مما يسوغ فيه الاجتهاد، على أن هناك من أهل العلم من جعل أفعال الصحابة بنفسها دليلا على المشروعية، أو على الأقل مما يسوغ فيه الاجتهاد ولا مجال للإنكار فيه، فهي خارجة بالكلية من باب البدع.

وهنا ننبه على أمر مهم في خصوص الأمثلة المذكورة في السؤال، وهو أنها تخلو من ضابط البدعة أصلا، فالبدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه. ومعنى ذلك أن صاحبها فعلها استقلالا لا استدلالا، بمعنى أنه فعلها بمعزل عن الأدلة الشرعية، وهذا لا يتأتى في هذه الأمثلة، فمثلا فعل بلال رضي الله عنه قد رغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم في سنة قولية مشهورة، حيث قال صلى الله عليه وسلم: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه. متفق عليه. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة. رواه مسلم.

وأما قول الصحابي بعد الرفع من الركوع: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه. رواه البخاري. وعند مسلم أن صحابيا آخر قال مثلها بعد دخوله في الصلاة دعاء الاستفتاح ونحو ذلك من الأقوال، فهي حوادث أعيان مندرجة تحت أصل عام وهو فضيلة ذكر الله وحمده والثناء عليه بما هو أهله، وعامة أهل العلم على أن هذا يجوز بغير المأثور مما صح معناه، قال ابن عبد البر في التمهيد: وفي حديث هذا الباب لمالك أيضا دليل على أن الذكر كله والتحميد والتمجيد ليس بكلام تفسد به الصلاة، وأنه كله محمود في الصلاة المكتوبة والنافلة مستحب مرغوب فيه، وفي حديث معاوية بن الحكم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التكبير والتسبيح والتهليل وتلاوة القرآن. فأطلق أنواع الذكر في الصلاة فدل على أن الحكم في الذكر غير الحكم في الكلام. اهـ.

ومعنى هذا أن من ذكر الله وأثنى عليه بما هو أهله في صلاته لا يطالب بدليل على مشروعية ذلك، وإنما يطالب به إذا داوم عليه واعتاده، أو حث عليه غيره أو أمر به الناس وجعله كأنه سنة متبعة.

وأما بخصوص تشريع الأذان برؤيا عبد الله بن زيد، فهذا لا مدخل له هنا بوجه من الوجوه، فإن الأذان لم يعمل به برؤياه، وإنما بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه بأنها رؤيا حق، كما روى الترمذي عنه قال: لما أصبحنا أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالرؤيا، فقال: إن هذه لرؤيا حق، فقم مع بلال فإنه أندى وأمد صوتا منك فألق عليه ما قيل لك وليناد بذلك. قال: فلما سمع عمر بن الخطاب نداء بلال بالصلاة خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر إزاره وهو يقول: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي قال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد فذلك أثبت. ولمزيد الفائدة يرجى الاطلاع على الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 132702، 67801، 17613، 39640، 110457.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني