الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

استقبال النبي لبيت المقدس بأمر من الله أم باجتهاده صلى الله عليه وسلم

السؤال

يقول بعض العلماء: إن التوجه إلى قبلة المسجد الأقصى ليس فيها نسخ، لأنها نسخ لحكم لا ندري أفعله النبي صلى الله عليه وسلم باجتهاده؟ أم بأمر الله؟ لأن الوحي غير محصور في القرآن.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فلا ريب في أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل بيت المقدس بعد قدومه المدينة بضعة عشر شهرا، وقد جاء عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن الله هو الذي أمره بذلك، ثم أمره بأن يستقبل البيت العتيق، فكان هذا أول ما نسخ من القرآن، قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه، فلما قدم المدينة وجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا ثم صرفه الله إلى الكعبة بعد، ولهذا يقول تعالى: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ـ قال أبو عبيد القاسم بن سلام، في كتاب الناسخ والمنسوخ: أخبرنا حجاج بن محمد، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء، عن ابن عباس، قال: أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا - والله أعلم - شأن القبلة: قال تعالى: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ـ فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق، ثم صرفه إلى بيته العتيق ونسخها، فقال: ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة - وكان أهلها اليهود - أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ـ إلى قوله: فولوا وجوهكم شطره ـ فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فأنزل الله: قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. انتهى.

وقد دل قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ.{البقرة: 143}. على ما ذكره ابن عباس وذهب إليه الجمهور من أن استقبال بيت المقدس كان بأمر منه تعالى.

وقد ذكر القرطبي الخلاف في هذه المسألة فقال ما عبارته: واختلف العلماء ـ أيضا ـ في كيفية استقباله بيت المقدس على ثلاثة أقوال، فقال الحسن: كان ذلك منه عن رأي واجتهاد، وقاله عكرمة وأبو العالية.

الثاني: أنه كان مخيرا بينه وبين الكعبة، فاختار القدس طمعا في إيمان اليهود واستمالتهم. قاله الطبري. وقال الزجاج: امتحانا للمشركين، لأنهم ألفوا الكعبة.

الثالث: وهو الذي عليه الجمهور ـ ابن عباس وغيره ـ وجب عليه استقباله بأمر الله تعالى ووحيه لا محالة، ثم نسخ الله ذلك وأمره الله أن يستقبل بصلاته الكعبة، واستدلوا بقوله تعالى: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.... الآية. انتهى.

وعلى تقدير أن استقبال بيت المقدس لم يكن بأمر من الله وإنما كان باجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، فإن القائلين بجواز الاجتهاد في حقه صلى الله عليه وسلم منهم من يقول إنه معصوم من الخطإ في الاجتهاد، ومنهم من يقول إنه قد يقع منه الخطإ، ولكنه لا يقَر عليه، قال الزركشي في البحر: إذا جوزنا له الاجتهاد فالمختار أنه لا يتطرق الخطأ إلى اجتهاده, لأنه لو جاز لوجب علينا اتباعه فيه, وهو ينافي كونه خطئا، والمسألة قد نص عليها الشافعي في الأم.

وقال ابن فورك: هو معصوم في اجتهاده كما هو معصوم في خبره، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أصحابنا، وقال الهندي: إنه الحق عندنا, وممن جزم به الحليمي في شعب الإيمان، فقال في خصائص الأنبياء: ومنها العصمة من الخطإ في الاجتهاد.

وقيل: يجوز بشرط أن لا يقر عليه، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق في اللمع، وحكاه ابن برهان عن أكثر أصحابنا، والخطابي في أعلام الحديث عن أكثر العلماء, وجعله عذرا لعمر في الكتاب الذي أراد النبي أن يكتبه وارتضاء الرافعي في العدد, في الكلام عن سكنى المعتدة عن الوفاة, وكذا ابن حزم في الإحكام قال: كفعله بابن أم مكتوم إذ أنزلت: عبس ـ ولا خلاف أنه لا يجوز التقرير عليه. انتهى مختصرا.

فإذا قدر كون النبي صلى الله عليه وسلم استقبل بيت المقدس باجتهاد، فإن تقرير الله له على ذلك يدل على أنه المشروع في ذلك الوقت، فيكون الأمر بعد ذلك باستقبال بيت المقدس من قبيل النسخ ـ أيضا ـ وهذا واضح كل الوضوح، ولهذا استدل عامة علماء الأصول على نسخ السنة بالقرآن بهذا، فإن استقبال بيت المقدس من السنة العملية بلا شك، وقد نسخت بالقرآن ـ كما هو معلوم ـ قال الشنقيطي في سياق أنواع النسخ: النسخ إلى بدل مساو: نسخ استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة بقوله تعالى: فول وجهك شطر المسجد الحرام ـ فاستقبال الكعبة مساو لاستقباله بيت المقدس بالنسبة لفعل المكلف.

وفي شرح الورقات للمحلي: ونسخ السنة بالكتاب: كما في نسخ استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة الفعلية، كما في حديث الصحيحين بقوله تعالى: فول وجهك شطر المسجد الحرام. انتهى.

وبما ذكرناه يتبين أن ما ذكره هذا الشيخ في أمر نسخ استقبال بيت المقدس غير صحيح.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني