الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما أسخف هذا الكلام، وما أجهل قائله وأبعده من العقل والدين! وتكلف الرد على مثل هذا مضيعة للوقت، وإنما نسأله لو كان الأمر كما ذكر فلماذا أمر الله بطلب العلم؟ ولماذا كثرت النصوص في مدح العلماء والثناء عليهم وبيان فضلهم على سائر الناس؟ كما قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ {المجادلة:11}.
ولماذا أمر الله بالرد إلى أهل العلم وسؤالهم عما يشكل فقال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {النحل:43}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا سألوا إذا لم يعلموا.
ولو كان الناس مستوين في القدرة على الاستنباط من القرآن والسنة، وكان العلم يولد مع أحدهم فليس هو بحاجة إلى شيخ أو كتاب فبم يفسر سؤال الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم عن كثير من الآيات؟ وسؤال التابعين للصحابة عن القرآن وغيره؟ حتى ذكر مجاهد أنه عرض القرآن على ابن عباس ثلاث مرات يوقفه عند كل آية ويسأله عنها.
ولو قال قائل في الطب مثلا بنظير هذا القول فمضى يشخص العلل ويصف الدواء بحجة أن الأمر ليس صعبا ولا يحتاج إلى مختصين أفترى الناس يقبلون منه؟ بل كلام مثل هذا أشبه بالهذيان، فإن انقسام الناس إلى عالم وجاهل وبين ذلك أمر معلوم بالحس والعقل، فالمكابرة فيه سفسطة ومعاندة للحس، وهذا القائل إما جاهل يهذي بما لا يدري، فيجب أن يناصح ويعرف، وتذكر له الأدلة على وجوب الرد إلى العلماء والصدور عن قولهم، كما قال تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ {النساء:83}. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ {النساء:59}.
وأولوا الأمر هم الأمراء والعلماء، وخيار هذه الأمة هم أهل العلم فهم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يظنن ظان أنه يهتدي إلى خير إذا سلك غير طريقهم التي ورثوها عن النبي صلى الله عليه وسل. قال ابن تيمية في رفع الملام: فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ـ بَعْدَ مُوَالَاةِ اللَّهِ تعالى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، خُصُوصًا الْعُلَمَاءُ, الَّذِينَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ النُّجُومِ, يُهْتَدَى بِهِمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ، إذْ كَلُّ أُمَّةٍ قَبْلَ مَبْعَثِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فَعُلَمَاؤُهَا شِرَارُهَا, إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ عُلَمَاءَهُمْ خِيَارُهُمْ، فَإِنَّهُمْ خُلَفَاءُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمَّتِهِ والمحيون لِمَا مَاتَ مِنْ سُنَّتِهِ، بِهِمْ قَامَ الْكِتَابُ, وَبِهِ قَامُوا, وَبِهِمْ نَطَقَ الْكِتَابُ وَبِهِ نَطَقُوا. انتهى.
فالمستمسك بغرز العلماء المتلقي عنهم هو السالك طريق النجاة، ومن عداه فمن الهمج الرعاع كما قال أمير المؤمنين علي ـ رضي الله عنه ـ في وصيته لكميل بن زياد: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يركنوا إلى ركن وثيق.
فلينظر امرؤ لنفسه من أي هذه الأقسام هو، فهذا إن كان جاهلا، وأما إن كان مغرضا معاندا يهدف إلى إسقاط هيبة العلماء، وتجرؤ الناس على القول في الدين لتنحل ربقة الإسلام من أعناقهم فالله طليبه وهو حسيبه، وأما ما في كلامه من الحق الذي أريد به باطل فمثله لا يروج على ذوي البصائر، فإن من تيسير الله تعالى القرآن للذكر أن قيض أهل العلم فكشفوا معانيه وأوضحوا مراد الله تعالى منه وردوا على من خاض فيه بغير علم أو تأوله على غير تأويله.
وأما الأمر بالتفكر والتدبر فحق لا شك فيه، ولكن شرط صحته أن يجري على قانون العلم ورسمه. وأما تقديس الأشخاص فلسنا بحمد الله ندعي العصمة لأحد، وإنما نعرف للفاضل فضله وننزله منزله اللائق به كما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم، وبرئ صلى الله عليه وسلم ممن لا يعرف للعالم حقه فروي عنه أنه قال: ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه. رواه الحاكم، وقال الألباني: إسناده حسن.
ألا فلا يجترئن مسلم على الخوض في دين الله بغير علم فإنها مهلكة عظيمة، فإن القول على الله بلا علم من أعظم الموبقات، وليستمسك المسلمون بغرز علمائهم وليصدروا عن أقوالهم ولا تصرفنهم عن ذلك شبهات قوم لا خلاق لهم من المبطلين.
والله أعلم.