الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم كتابة الأم لشيء من أملاكها لابنها لبره بها وعقوق الباقين

السؤال

أنا رجل كنت بارا بوالدي- رحمه ‏الله- وكانت لي عنده معزة خاصة ‏جدا، لدرجة أنه عندما دخل في ‏غيبوبة الوفاة، لم يكن ينادي على أحد ‏غيري، رغم أن لدي أخوين أحدهما ‏يكبرني بسنة، والآخر أصغر مني ‏بثلاث عشرة سنة، وأخت أصغر مني ‏بأربع سنوات. والآن أنا بار جدا ‏بأمي- ربنا يطيل عمرها- فهي أيضا ‏لي عندها معزة كبيرة جدا جدا جدا. ‏
الموضوع أن أمي تعاني من خشونة ‏كبيرة بالركبة لا تستطيع الحركة إلا ‏بالمشاية، ونحن جميعا نعيش في ‏عقار واحد، كل واحد في شقته. ‏وجميعنا ميسورو الحال، أي مستوى ‏متوسط أو يزيد قليلا، وكانت أختي ‏تراعي أمي بسب صعوبة حركتها، ثم ‏تخلت عنها وقاطعتها هي وأخي ‏الأكبر لمدة تزيد على السنتين الآن، و‏الأخ الصغير بدأ يسير على نفس ‏الدرب. وبناء عليه تريد أمي أن ‏تكتب لي جزءا من أملاكها بسبب ‏جحود إخوتي لها، ووفائي لها.‏
‏ فهل يجوز ذلك شرعا؟
‏ أرجو الإفادة.‏
‏ وشكرا.‏

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن كنت تعني بقولك إنها تريد أن تكتب لك جزءا من أملاكها، أي على سبيل الوصية، تأخذه بعد مماتها، فهذه وصية لوارث, ولا يجوز لأمك أن تكتب لك شيئا من أملاكها تأخذه بعد مماتها؛ لأن الوصية للوارث ممنوعة شرعا؛ لحديث: إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث. وإذا أوصت لك، فإن وصيتها تتوقف على إجازة الورثة، فإن أجازوها بعد مماتها، أخذت ما أوصت به لك، وإن لم يجيزوها، لم تأخذ إلا نصيبك الشرعي من الميراث، ودخلت الوصية في التركة؛ وقد نص الفقهاء على عدم جواز الوصية للوارث، وأنها تحرم.

جاء في شرح منتهى الإرادات: وَتَحْرُمُ الْوَصِيَّةُ مِمَّنْ يَرِثُهُ غَيْرُ زَوْجٍ أَوْ غَيْرُ زَوْجَةٍ، بِزَائِدٍ عَلَى الثُّلُثِ، لِأَجْنَبِيٍّ، وَلِوَارِثٍ بِشَيْءٍ، نَصًّا، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ .... وَأَمَّا تَحْرِيمُهَا لِلْوَارِثِ بِشَيْءٍ؛ فَلِحَدِيثِ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ ( وَتَصِحُّ ) هَذِهِ الْوَصِيَّةُ الْمُحَرَّمَةُ ( وَتَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ ) لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: لَا تَجُوزُ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ. رَوَاهُمَا الدَّارَقُطْنِيُّ. اهــ.

وإن كنت تعني بقولك تكتب لك...، أي تهب لك هبة منجزة وليست وصية؛ فإن الأصل وجوب العدل بين الأولاد في الهبة، ولا يجوز للوالد أو الوالدة أن يفضل بين أولاده في الهبة بأن يعطي بعضا ويحرم بعضا؛ لحديث: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم.

قال ابن قدامة في المغني: وَالْأُمُّ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ كَالْأَبِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتَّقُوا اللَّهِ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ. وَلِأَنَّهَا أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ، فَمُنِعَتْ التَّفْضِيلَ كَالْأَبِ؛ وَلِأَنَّ مَا يَحْصُلُ بِتَخْصِيصِ الْأَبِ بَعْضَ وَلَدِهِ مِنْ الْحَسَدِ وَالْعَدَاوَةِ، يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي تَخْصِيصِ الْأُمِّ بَعْضَ وَلَدِهَا، فَثَبَتَ لَهَا مِثْلُ حُكْمِهِ فِي ذَلِكَ . ... اهــ.

ومجرد برك بها ليس مسوغا شرعيا؛ لأن أجر البر على الله تعالى وليس عليها، ولكن عقوق إخوانك وأخواتك لها، وتقصيرهم في حقها يُحتمل أن يكون مسوغا لحرمانهم؛ فإن العقوق فسق.

وقال ابن قدامة في المغني: فَصْلٌ: فَإِنْ خَصَّ بَعْضَهُمْ لِمَعْنًى يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ، مِثْلَ اخْتِصَاصِهِ بِحَاجَةٍ، أَوْ زَمَانَةٍ، أَوْ عَمَى، أَوْ كَثْرَةِ عَائِلَةٍ، أَوْ اشْتِغَالِهِ بِالْعِلْمِ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ الْفَضَائِلِ، أَوْ صَرَفَ عَطِيَّتَهُ عَنْ بَعْضِ وَلَدِهِ لِفِسْقِهِ ... فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ ... وَيَحْتَمِلُ ظَاهِرُ لَفْظِهِ الْمَنْعَ مِنْ التَّفْضِيلِ أَوْ التَّخْصِيصِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ... اهــ.

وتراجع الفتوى رقم: 163591

ولا شك أن الأحوط والأبرأ لذمتها أن تعدل في عطيتها ولا تفضل بعضكم على بعض, وبرك بها وإحسانك إليها، أجره عند الله تعالى، فإياك أن تقصد ببرها الحصول على شيء من حطام الدنيا الفانية؛ فقد جاء في الحديث الصحيح: فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ. رواه أحمد.

وانظر الفتوى رقم: 197723عن حكم من قصد بالطاعة ثمرتها العاجلة في الدنيا .

والله تعالى أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني