الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تأديب النفس على التفريط بالتزام عبادة معينة.. رؤية شرعية

السؤال

إذا ترك العبد واجبا كالتفريط في صلاة الفجر في جماعة، أو كان نائما ولم يستيقظ إلا بعد زوال وقت الفجر، فعاقب نفسه بصلاة مائة ركعة، أو إذا فعل محرما، كالنظر المحرم، فعاقب نفسه بالوضوء وصلاة ركعتين، فهل هذا جائز؟ وهل تحديد عدد معين لكل خطأ فيه شيء من المخالفة؟ ومن قال: بأن هذا يدحر الشيطان، ويجعله يعينك ويوقظك للصلاة، فهل في هذا الكلام محذور؟ وبارك الله فيكم.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

نعم يجوز للإنسان أن يُؤدب نفسه ببعض الطاعات، ولو ألزم نفسه بها، وأصل ذلك مشروعية إتباع السيئةِ الحسنةَ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {هود: 114}.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَدَعَاهُ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَجُلٌ: هَذَا لَهُ خَاصَّةً؟ قَالَ: بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً. متفق عليه..
عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ. رواه أحمد، والترمذي، والحاكم، وحسنه الألباني.
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: إذا أسأت فأحسن. رواه ابن حبان، والحاكم، وحسنه الألباني.

وَقَالَ سَلْمَانُ: إِذَا أَسَأْتَ سَيِّئَةً فِي سَرِيرَةٍ، فَأَحْسِنْ حَسَنَةً فِي سَرِيرَةٍ، وَإِذَا أَسَأْتَ سَيِّئَةً فِي عَلَانِيَةٍ، فَأَحْسِنْ حَسَنَةً فِي عَلَانِيَةٍ، لِكَيْ تَكُونَ هَذِهِ بِهَذِهِ. أخرجه ابن أبي الدنيا.

وقد جاءت آثار كثيرة عن السلف في ذلك منها: عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ إِذَا شَهِدَ الْعِشَاءَ الآخِرَةَ مَعَ النَّاسِ صَلَّى رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، وَإِذَا لَمْ يَشْهَدْهَا فِي جَمَاعَةٍ، أَحْيَا لَيْلَةً، قَالَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِ مَعْمَرٍ، أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ، فَحَدَّثْتُ بِهِ مَعْمَرًا، قَالَ: كَانَ أَيُّوبُ يَفْعَلُهُ. رواه عبد الرزاق، وأبو يعلى الموصلي.

قال ابْن أَبِي حاتم: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حرملة: سمعت ابْن وهب، يقول: نذرت أني كلما اغتبت إنسانا أن أصوم يوما فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم، فنويت أني كلما اغتبت إنسانا أن أتصدق بدرهم، فمن حب الدراهم تركت الغيبة، قلت ـ الذهبي-: هكذا والله كَانَ العلماء، وهذا هُوَ ثمرة العلم النافع.

وهذا الاستحسان من الذهبي له قيمته، إذ هو إمام فقيه شافعي سني ـ رحمه الله ـ وابن وهب من أئمة السنة، وله تصانيف فيها، ككتاب القدر، وكم روى له أئمة السنة كالآجري وغيره، وجاء في ترجمة المزني، وقِيلَ: كان إذا فاتته صلاة الجماعة صلّى الصّلاة خمسًا وعشرين مَرَّةً. وقوة دلالة الأثر من جهة كون المزني من كبار الفقهاء في الإسلام، من أصحاب الشافعي.

قال أبو القَاسِم البَغَوِيَّ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللهِ القَوَارِيْرِيَّ يَقُوْلُ: لَمْ تَكُنْ تَكَادُ تَفُوتُنِي صَلاَةُ العَتَمَةِ فِي جَمَاعَةٍ، فَنَزَلَ بِي ضَيْفٌ، فَشُغِلْتُ بِهِ، فَخَرَجتُ أَطْلُبُ الصَّلاَةَ فِي قَبَائِلِ البَصْرَةِ، فَإِذَا النَّاسُ قَدْ صَلَّوْا، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: صَلاَةُ الجَمِيْعِ تَفْضُلُ عَلَى صَلاَةِ الفَذِّ إِحْدَى وَعِشْرِيْنَ دَرَجَةً ـ وَرُوِيَ: خَمْساً وَعِشْرِيْنَ دَرَجَةً ـ وَرُوِيَ: سَبْعاً وَعِشْرِيْنَ ـ فَانْقَلَبْتُ إِلَى مَنْزِلِي، فَصَلَّيْتُ العَتَمَةَ سَبْعاً وَعِشْرِيْنَ مَرَّةً، ثُمَّ رَقَدتُ، فَرَأَيْتُنِي مَعَ قَوْمٍ رَاكِبِي أَفْرَاسٍ، وَأَنَا رَاكِبٌ، وَنَحْنُ نَتَجَارَى وَأَفرَاسُهُم تَسبِقُ فَرَسِي، فَجَعَلتُ أَضرِبُه لأَلحَقَهُم، فَالتَفَتَ إِلَيَّ آخِرُهُم، فَقَالَ: لاَ تُجْهِدْ فَرَسَكَ، فَلَسْتَ بِلاَحِقِنَا، قَالَ: فَقُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: لأَنَّا صَلَّيْنَا العَتَمَةَ فِي جَمَاعَةٍ، ذكرها الذهبي في ترجمته من السير مسندة.
وعبيد الله القواريري هو شيخ للبخاري ومسلم.
وغيرها كثير، وللاستزادة يُراجع كتاب: محاسبة النفس ـ لابن أبي الدنيا مع التحري فيما يُورده.

وعليه؛ فلا حرج في ذلك وإن كان الأولى عدم تحديد شيء ثابت من العبادات، لكن يأتي بحسنات عموماً، وأما قولك: بأن هذا يدحر الشيطان ويجعله يعينك ويوقظك للصلاة ـ فهذه مراغمة للشيطان، وقد يحاول معك طريقاً آخر في الإضلال، وأما أنه يُوقظك لصلاة الفجر، فهذه دعوى من أين لقائلها بها؟!! وأوصيك أخي الحبيب بوصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

وراجع الفتويين رقم: 60648، ورقم: 107973.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني