الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل ما تضمنته الوثيقة النبوية والعهدة العمرية في التعايش مع أهل الكتاب لازمة لكل زمان ومكان؟

السؤال

لي سؤال من ثلاثة أفرع: هل الوثيقة التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم عند قدومه للمدينة المنورة هي بصفته نبيًا مشرعًا أم قائد دولة؟ وماذا ينبني على القول الذي تراه صحيحًا من أحكام؟
ثانيًا: هل العهدة العمرية التي كتبها عمر بن الخطاب وأجمعت الأمة عليها تعتبر إجماعًا قام على مصلحة متغيرة فيجوز مخالفتها أم تعتبر من الإجماع الذي لا يجوز مخالفته؟ وهل الإجماع صريح أم سكوتي؟ والسبب في هذا السؤال أن بعض الأحكام كانت قاسية على أهل الكتاب - كمنع طرق أجراس الكنائس, ومنع بناء الكنائس, ومنع ترميم الكنائس، وأن تحلق مقدمة شعورهم, وأن يقوموا للمسلمين في المجلس إن لم يكن هناك متسع للمسلم، وما شابه ذلك من أحكام - فهل لو عادت دولة الخلافة سنقوم بتطبيق هذه الأمور وأمثالها على أهل الكتاب أم هذه الأمور التي قام بها عمر من قبل السياسة الشرعية التي يجوز مخالفتها؟ وهل النصارى حقًّا هم الذي كتبوا هذه الأمور وأقروها على أنفسهم أم أن عمر هو الذي كتبها وفرضها عليهم؟ وما المقصود بقوله تعالى: "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"؟
ثالثًا: كيف نرد على من يقول يجب أن لا نمنع أهل الكتاب من الدعوة إلى أديانهم في بلاد الإسلام، والقول بأن الفكر لا يمنع إلا بفكر، فنحن نسمح لهم ولكن نحاربهم بالفكر, ونثبت بطلان دينهم في ذلك.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالأصل في تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم أنها بمنصب الرسالة، وقد تكون في بعض الأحوال الخاصة بمنصب الإمامة العامة أو القضاء أو الإفتاء أو غير ذلك، فما كان منها بمنصب الرسالة وحده فهو لازم لعموم الأمة إلى يوم القيامة، وما كان منها بغيره من المناصب - كالإمامة, أو القضاء أو غيرهما - فذلك قدوة لمن كان في مثل حال النبي صلى الله عليه وسلم ومنصبه هذا، من الإمامة أو القضاء وغيرهما. قال الإسنوي في التمهيد في تخريج الفروع على الأصول: النبي صلى الله عليه وسلم له منصب النبوة المقتضية لنقل الأحكام بالوحي عن الله تعالى, ومنصب الإمامة المقتضية للحكم والإذن فيما يتوقف عليه الإذن من الأئمة، كالتولية, وقبض الزكوات وصرفها, ونحو ذلك، فإنه إمام المسلمين والقائم بأمورهم, ومنصب الإفتاء بما يظهر رجحانه عنده فإنه سيد المجتهدين, فإذا ورد منه تسليط على شيء مثلًا بلفظ يحتمل الثلاث، فمذهب الشافعي أنا لا نحمله على الثلاث بل نحمله على التشريع العام؛ لأنه الغالب من أحواله، ولأنه المنصب الأشرف، ولأن الحمل عليه أكثر فائدة، فوجب المصير إليه، إلا أن الأول أرجح من الثاني للاتفاق عليه بخلاف الاجتهاد, وقال أبو حنيفة: يحمل على الثاني لأنه المتيقن. اهـ.

وقال الدكتور محمد بن سليمان الأشقر في رسالته للدكتوراه (أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية): الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في فعل من أفعاله يكون صحيحًا إذا كان المقتدي به مساويًا له في الجهة التي صدر عنها ذلك الفعل, فالتصرفات الصادرة عنه بوصفه رئيس الدولة، يقتدي به فيها من كان بعده رئيس دولة, وما فعله بوصفه مفتيًا، يقتدي به فيه المفتي, وما فعله بوصفه قاضيًا، يقتدي به فيه القاضي, وما فعله بوصفه إمامًا في الصلاة يقتدي به فيه الأئمة بعده. اهـ.

والوثيقة التي عاهد النبي صلى الله عليه وسلم عليها يهود المدينة بعد الهجرة، تصلح مثالًا لتصرفات النبي صلى الله عليه وسلم بمنصب الإمامة، والقيام بالمصالح العامة للأمة، فيجوز لولاة الأمور عقد مثل هذه المعاهدة، بشروط المعاهدة النبوية نفسها أو بعضها أو غيرها، وذلك في ضوء الأدلة والقواعد الشرعية، وفي حدود تحقيق المصلحة العامة للأمة، بحسب الوضع القائم, وراجع الفتوى رقم: 52924 وما أحيل عليه فيها.

وكذلك الحال في العهدة العمرية، فقد تصرف عمر - رضي الله عنه - بمقتضى ولايته، واجتهد في وضع الشروط المحققة للمصلحة، والتي أصبحت محل إجماع في الجملة, ومحل قبول من أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: وهذه الشروط أشهر شيء في كتب الفقه والعلم، وهي مجمع عليها في الجملة بين العلماء من الأئمة المتبوعين وأصحابهم، وسائر الأئمة. اهـ. وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة: وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها، فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها. اهـ. وراجع لمزيد الفائدة عن ذلك الفتويين: 7498، 7982.

والإجماع هنا على المشروعية لا على اللزوم، بمعنى أنه يسع الأمراء النظر في هذه الشروط والزيادة عليها أو النقصان منها بحسب المصلحة، مع المحافظة على ما ثبت من بنودها بأدلة أخرى ملزمة, ولذلك قسم الفقهاء شروط عقد الجزية إلى لازم وفاضل، أو إلى مستحق ومستحب، يعنون بذلك ما يجب مراعاته دون اشتراط، وما لا يلزم حتى يشترط، قال الماوردي في الأحكام السلطانية: يشترط عليهم في عقد الجزية شرطان: مستحق ومستحب، أما المستحق فستة شروط: أحدها: أن لا يذكروا كتاب الله تعالى بطعن فيه ولا تحريف له. والثاني: أن لا يذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتكذيب له ولا ازدراء. والثالث: أن لا يذكروا دين الإسلام بذم له ولا قدح فيه. والرابع: أن لا يصيبوا مسلمة بزنا ولا باسم نكاح. والخامس: أن لا يفتنوا مسلمًا عن دينه، ولا يتعرضوا لماله ولا دينه. والسادس: أن لا يعينوا أهل الحرب ولا يودوا أغنياءهم. فهذه الستة حقوق ملتزمة، فتلزمهم بغير شرط، وإنما تشترط إشعارًا لهم وتأكيدًا؛ لتغليظ العهد عليهم، ويكون ارتكابها بعد الشرط نقضًا لعهدهم. وأما المستحب فستة أشياء: أحدها: تغيير هيئاتهم بلبس الغيار وشد الزنار. والثاني: أن لا يعلوا على المسلمين في الأبنية, ويكونوا إن لم ينقصوا مساوين لهم. والثالث: أن لا يسمعوهم أصوات نواقيسهم ولا تلاوة كتبهم، ولا قولهم في عزير والمسيح. والرابع: أن لا يجاهروهم بشرب خمورهم، ولا بإظهار صلبانهم وخنازيرهم. والخامس: أن يخفوا دفن موتاهم، ولا يجاهروا بندب عليهم ولا نياحة. والسادس: أن يمنعوا من ركوب الخيل عناقًا وهجانًا، ولا يمنعوا من ركوب البغال والحمير. وهذه الستة المستحبة لا تلزم بعقد الذمة حتى تشترط، فتصير بالشرط ملتزمة، ولا يكون ارتكابها بعد الشرط نقضًا لعهدهم، ولكن يؤخذون بها إجبارًا, ويؤدبون عليها زجرًا، ولا يؤدبون إن لم يشترط ذلك عليهم، ويثبت الإمام ما استقر من عقد الصلح معهم في دواوين الأمصار ليؤخذوا به إذا تركوه؛ فإن لكل قوم صلحًا ربما خالف ما سواه اهـ.

وبهذا يظهر أن شروط العقد تختلف من حال إلى حال، ومن بلد إلى بلد، قال الدكتور نمر النمر في رسالته العلمية أهل الذمة والولايات العامة في الفقه الإسلامي: وما ورد من الشروط العمرية هو من هذا الجانب، أي من الذي وجب عليهم بالشرط، فقد شرط أهل الذمة تلك الشروط على أنفسهم فيجب أن ينفذوها، وإلا أخذوا بالعقوبة على التقصير فيها، ويلزم كل أهل بلد بما اشترط عليهم. اهـ. وفي هذا إشارة إلى أن أهل الذمة هم الذين اشترطوا تلك الشروط على أنفسهم، وبذلك جاءت الروايات، ولفظ بعضها: إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا, وشرطنا لكم على أنفسنا. وذكروا الشروط. ويمكن الاطلاع على هذه الروايات في كتاب شروط النصارى لابن زَبْر الربعي, وكتاب شروط أمير المؤمنين عمر على النصارى لابن السماك, وكتاب مسند الفاروق لابن كثير, ورسالة الدكتور عبد السلام آل عيسى دراسة نقدية في المرويات الواردة في شخصية عمر بن الخطاب وسياسته الإدارية.

وأما قوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29] فالصواب في الآية كما يقول ابن القيم في أحكام أهل الذمة: أن الصغار هو التزامهم لجريان أحكام الملة عليهم، وإعطاء الجزية، فإن التزام ذلك هو الصغار. اهـ. وراجع تفسير الآية في الفتوى رقم: 162823, ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 52996.

وأما الفقرة الثالثة من السؤال فيمكن معرفة جوابها بالاطلاع على الفتويين: 136005، 170755. ومنها سيعرف الأخ السائل أن ما يعتبره أحكامًا قاسية على أهل الكتاب، إنما هو في الحقيقة رحمة بهم؛ لما فيه من توطئة وتمهيد لدخولهم في الإسلام، بعد التعرف عليه عن قرب، والعيش في كنفه ومخالطة أهله، وهذا بالفعل ما حدث في البلاد المفتوحة في عصور الإسلام الأولى.

هذا مع التنبه للشرط الخامس من الشروط المستحقة في عقد الذمة وهو أن لا يفتنوا مسلمًا عن دينه، ولا يتعرضوا لماله ولا دينه. فهذا الشرط لازم بغير اشتراط في العقد، وإنما يشترط إشعارًا لهم وتأكيدًا؛ لتغليظ العهد عليهم، ويكون ارتكابه بعد الشرط نقضًا لعهدهم. كما سبق في كلام الماوردي. وهناك مقال مفيد في هذا المعنى، منشور في مجلة البيان في العدد (206) بعنوان: (الموقف من الرأي الآخر نظرة شرعية) للشيخ محمد بن شاكر الشريف.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني