الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وجه رغبة سليمان عليه السلام بملك لا ينبغي لأحد من بعده

السؤال

معروف أن الدنيا حقيرة وفانية، ومتاعها زائل، وأكثر من يعرف ذلك الأنبياء والرسل. لماذا طلب سيدنا سليمان ملكا لا ينبغي لأحد بعده، مع علمه بأن الدنيا ملكها زائل؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فيقول العلامة ابن جرير الطبري: إن قال لنا قائل: وما وجه رغبة سليمان إلى ربه في الملك، وهو نبيّ من الأنبياء، وإنما يرغب في الملك أهل الدنيا المؤثِرون لها على الآخرة؟ أم ما وجه مسألته إياه، إذ سأله ذلك مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده، وما كان يضرّه أن يكون كلّ من بعده يُؤْتَى مثل الذي أوتي من ذلك؟ أكان به بخل بذلك، فلم يكن من مُلكه، يُعطي ذلك من يعطاه، أم حسد للناس، كما ذُكر عن الحجاج بن يوسف; فإنه ذكر أنه قرأ قوله (وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي) فقال: إن كان لحسودًا، فإن ذلك ليس من أخلاق الأنبياء! قيل: أما رغبته إلى ربه فيما يرغب إليه من المُلك، فلم تكن إن شاء الله به رغبةً في الدنيا، ولكن إرادة منه أن يعلم منزلته من الله في إجابته فيما رغب إليه فيه، وقبوله توبته، وإجابته دعاءه. وأما مسألته ربه مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده، فإنا قد ذكرنا فيما مضى قبلُ قولَ من قال: إن معنى ذلك: هب لي مُلكا لا أسلبه كما سلبته قبل. وإنما معناه عند هؤلاء: هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أن يَسلُبنيه. وقد يتجه ذلك أن يكون بمعنى: لا ينبغي لأحد سواي من أهل زماني، فيكون حجة وعَلَما لي على نبوتي وأني رسولك إليهم مبعوث، إذ كانت الرسل لا بد لها من أعلام تفارق بها سائر الناس سواهم. ويتجه أيضا لأن يكون معناه: وهب لي ملكا تخُصُّني به، لا تعطيه أحدا غيري تشريفا منك لي بذلك، وتكرمة، لتبين منزلتي منك به من منازل من سواي، وليس في وجه من هذه الوجوه مما ظنه الحجاج في معنى ذلك شيء.

وقال ابن عرفة في تفسيره: قوله تعالى: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ... (35)} نقلوا عن الحجاج، أنه قال: لقد كان حسودا. قال ابن عطية: وهذا من فسقه. قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: بل هذا من جهله؛ فإن الإنسان تارة يطلب من أن يعطيه شيئا يخصه به دون غيره، وتارة يطلب منه شيئا علم منه أنه لَا يعطيه إلا رجلا واحدا؛ فيرغب منه أن يكون هو ذلك الرجل، والأول: طلب الإعطاء والخصوصية، والثاني: طلب الإعطاء فقط؛ فلعل الله تعالى أوحى إلى سليمان عليه الصلاة والسلام أن هذه الهبة لَا ينالها إلا رجل واحد يكون نوعه منحصرا في شخصيه، فرغب من الله تعالى أن يكون هو ذلك الرجل، فليس في هذا حسد؛ إنما الحسد على طلب الإعطاء والخصوصية؛ لأنه يطلب منه شيئا؛ ويحرم منه غيره.

وقال ابن جزي الغرناطي في التسهيل: { قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي } قدم الاستغفار على طلب الملك ، لأن أمور الدين كانت عندهم أهم من الدنيا فقدّم الأولى والاهمّ ، فإن قيل : لأي شيء قال لا ينبغي لأحد من بعدي ، وظاهر هذا طلب الانفراد به حتى قال فيه الحجاج إنه كان حسوداً؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أنه إنما قال ذلك لئلا يجري عليه مثل ما جرى من أخذ الجني لملكه ، فقصد أن لا يسلب ملكه عنه في حياته ويصير إلى غيره ، والآخر أنه طلب ذلك ليكون معجزة ، دلالة على نبوته.

وراجعي كلام الزمخشري بالفتوى رقم: 1898.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني