الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

أرجو شرح حديث: "يبلغ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلًّا يذل الله به الكفر"، فحسب ما فهمت أن الإسلام سيدخل كل البيوت، فكيف ذلك؟ فهناك بيوت أعرفها بنيت وسقطت، وبنيت بيوت أخرى وانتهت وسقطت ولم يدخلها الإسلام، وكيف يمكن التوفيق بين ذلك؟.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فهذا الحديث عن تميم الداري ـ رضي الله عنه ـ وقد رواه أحمد، والطبراني في الكبير، وصححه ابن حبان، والحاكم على شرط الشيخين، ولم يتعقبه الذهبي، وصححه الألباني، وليس المراد به أن كل أهل الأرض، وكل أهل بيت، يدخلون الإسلام! وإنما المراد أن حكم الإسلام، وملك أتباعه، سيعم ويظهر، ويصير الناس إما مسلم، وإما تحت سلطان المسلمين، كما يشير إليه قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {التوبة: 33}.

وإلى هذا يشير آخر الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلًّا يذل الله به الكفر ـ فهناك إسلام، وهناك كفر، ولكن العز للإسلام، والذل للكفر، ولحديث تميم هذا شاهد من حديث المقداد بن الأسود، يوضح هذا المعنى، ولفظه: لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله كلمة الإسلام، بعز عزيز، أو ذل ذليل، إما يعزهم الله، فيجعلهم من أهلها، أو يذلهم، فيدينون لها. رواه أحمد، وصححه ابن حبان، والحاكم على شرط الشيخين، ولم يتعقبه الذهبي، وصححه الألباني، والأرناؤوط.

قال القاري في المرقاة، والمباركفوري في المرعاة: بعز عزيز، أي: يعزه الله بها، حيث قبلها من غير سبي وقتال، وذل ذليل، أي: أو يذله الله بها، حيث أباها بذل سبي أو قتال؛ حتى ينقادون لها طوعًا أو كرهًا، أو يذعن لها ببذل الجزية..

ثم فسر العز والذل بقوله: إما يعزهم الله أو يذلهم، فيدينون لها، أي: فيطيعون وينقادون لها.. قال الطيبي: أي: إذا كان الأمر كذلك، فتكون الغلبة لدين الله طوعًا أو كرهًا ـ وقيل: في آخر الزمان، أي: حين ينزل عيسى عليه السلام من السماء، ويقتل الدجال، لا يبقى على وجه الأرض محل الكفر، بل جميع الخلائق يصيرون مسلمين: إما بالطوع والرغبة ظاهرًا وباطنًا، وإما بالإكراه والجبر، وإذا كان كذلك، فيكون الدين كله لله، يشير إليه ما رواه مسلم عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى، فقلت: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله عز وجل: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق... الآية، أن ذلك تام، قال: إن سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث ريحًا طيبة، فيتوفى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم ـ ويدل له حديث أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: وتهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ـ رواه أحمد بسند صحيح.. اهـ باختصار وتصرف يسير.

وقد بوب ابن حبان على حديث المقداد فقال: ذكر الإخبار عن إظهار الله تعالى الإسلام في أرض العرب وجزائرها.

وقال القاري في المرقاة: لا يبقى على ظهر الأرض ـ أي: وجهها من جزيرة العرب، وما قرب منها، فلا ينافي ما قيل: إن وراء الصين قومًا لم تبلغهم إلى الآن بعثته عليه الصلاة والسلام. اهـ.

وذكر نحو ذلك المباركفوري في المرعاة ثم قال: وقيل: هو محمول على العموم. اهـ.

وفي معنى ما سبق حديث ثوبان مرفوعًا: إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها. رواه مسلم.

قال الخطابي في معالم السنن: زوى لي الأرض ـ معناه قبضها، وجمعها.. وقوله: ما زوي لي منها ـ يتوهم بعض الناس أن حرف من ههنا معناه التبعيض، فيقول: كيف اشترط في أول الكلام الاستيعاب، ورد آخره إلى التبعيض؟ وليس ذلك على ما يقدرونه، وإنما معناه التفصيل للجملة المتقدمة، والتفصيل لا يناقض الجملة، ولا يبطل شيئًا منها، لكنه يأتي عليها شيئًا شيئًا، ويستوفيها جزءًا حزءًا، والمعنى أن الأرض زويت جملتها له مرة واحدة، فرآها، ثم يفتح له جزء جزء منها حتى يأتي عليها كلها، فيكون هذا معنى التبعيض فيها. اهـ.

ونقل ذلك القاري في المرقاة، ثم قال: ولعل وجه من قال بالتبعيض هو أن ملك هذه الأمة ما بلغ جميع الأرض، فالمراد بالأرض أرض الإسلام، وإن ضمير منها راجع إليها على سبيل الاستخدام، والله أعلم بالمرام. اهـ.

وقال القرطبي في المفهم: هذا الخبر قد وجد مخبره، كما قال صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك من دلائل نبوته، وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى بحر طنجة، الذي هو منتهى عمارة المغرب، إلى أقصى المشرق مما وراء خراسان والنهر، وكثير من بلاد الهند والسند والصغد، ولم يتسع ذلك الاتساع من جهة الجنوب والشمال؛ ولذلك لم يذكر صلى الله عليه وسلم أنه أُريه، ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه. اهـ.

وذكر نحو ذلك الشيخ ابن عثيمين في شرح كتاب التوحيد، والخلاصة أن لأهل العلم في فهم هذا الحديث وما في معناه، اتجاهين:

فإما أن يكون من العموم الذي أريد به الخصوص، ويكون المراد بلوغ الإسلام إلى جميع أرض العرب وما قاربها، أو ما كان جهة مشرق الأرض ومغربها، دون شمالها وجنوبها.

وإما أن يكون على عمومه، ولكنه يتحقق شيئًا فشيئًا حتى يتم الأمر، ويظهر الله الإسلام على الدين كله، ويكون الحكم له.

وأما دخول أهل الأرض جميعًا في دين الله، فسيكون في آخر الزمان في حين ينزل المسيح، ويقتل الدجال، ويضع الجزية، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني