الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

سؤالي لم يستطع أحد الإجابة عليه بشكل واف ومقنع، وهو: أليس أمر الله كله خيرا، وقضاؤه خير. إذًا لماذا ندعو؟
إذا دعوت بشيء محدد فقد يكون فيه الشر، وإذا قلت اللهم اقدر لي الخير حيث كان، فإن أمر الله كله خير، وإن لم أدع.
أريد توضيح هذا الأمر. فقد توقفت عن الدعاء؛ خوفا من أن أطلب شيئا محددا، فيكون فيه الشر، وأن أطلب الخير فإن الله يأتي بالخير دائما، وإن لم أدع.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالدعاء نفسه من جملة القدر، واستجابته وظهور أثره من جملة فضل الله تعالى وخيره النازل على عباده، وهو من أجلِّ وسائل الخير والبركة، ومن أقرب أسباب النفع والرحمة، فكما لا يصح للمرء ترك الطعام مثلا، بحجة أن قضاء الله نافذ على أية حال، وهو خير كله! فكذلك لا يصح له ترك الدعاء بالحجة نفسها. فإن الله تعالى جرت سنته بالربط بين الأسباب ومسبباتها. وحسبنا ما جاء في القرآن والسنة من التوجيه والترغيب في الدعاء وبيان شأنه، وذلك في آيات كثيرة جدا، منها قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186] وقوله عز وجل: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ [الفرقان: 77] جاء في تفسير الجلالين: {قل} يا محمد لأهل مكة {ما} نافية {يعبأ} يكترث {بكم ربي لولا دعاؤكم} إياه في الشدائد فيكشفها. اهـ.

وكذلك السنة فيها الأمر بالدعاء وبيان منزلته وأثره العظيم، وانظري الفتوى رقم: 152179. وراجعي للفائدة الفتوى رقم: 301789. وما أحيل عليه فيها.

هذا من ناحية .. ومن ناحية أخرى فإن الله تعالى كما خلق الخير خلق الشر، وكما يبتلي بالسراء يبتلي بالضراء، وهو الذي يعطي ويمنع، ويضر وينفع، وما من قدرين متقابلين إلا وهما من الله تعالى، كالشفاء والمرض، والعافية والبلاء، والغنى والفقر، والراحة والتعب، والإنجاب والعقم، والسعادة والحزن، والنصر والهزيمة، وغير ذلك من أقدار الله. فالعاقل هو الذي يفر من قدر يؤلمه إلى قدر يناسبه، فيتوجه إلى الله بالدعاء والإلحاح عليه في السؤال. وهذا هو حال الصالحين فضلا عن الأنبياء والمرسلين، وحسبك أن تقرئي سورة الأنبياء فتنظري كيف فعل أيوب ويونس وزكريا، كما قال تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ... وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ * وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ .. [الأنبياء: 83 - 90]

وتأملي حال النبي وأصحابه يوم بدر كما وصف الله تعالى فقال: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 9، 10] فانظري إلى استغاثتهم بالله، مع نص الآية على كون النصر من عند الله!!

وقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن عمر بن الخطاب، قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاث مائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض»، فما زال يهتف بربه، مادا يديه مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين [الأنفال: 9] فأمده الله بالملائكة.

وهنا ننبه على عدم التعارض بين خلق الله تعالى للخير والشر، وبين كون أفعال الله تبارك وتعالى كلها خير وحكمة، فما كان من شر فهو في مفعولات الله تعالى التي خُلقت لحكمة وغاية حسنة، فهي وإن كانت شرا نسبيا إضافيا جزئيا إلا أنها خير باعتبار حكمتها وغايتها، فالله تعالى لا يخلق شرا محضا من كل وجه؛ فهو سبحانه منزه عن خلق الشر الكلي المطلق من كل وجه. وراجعي في ذلك الفتاوى التالية: 310345، 190083، 47818.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني