الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

خروج المرأة متعطرة متطيبة... رؤية شرعية

السؤال

بما أن الرجل يفتن بالمرأة، وعليه فقد شرع الإسلام أنه لا يجوز للمرأة التطيب والخروج من البيت حتى لا يشم ريحها رجل.
فلماذا لم يحرم التطيب على الرجل، بالرغم من أن النساء قد يفتن بريحه أيضا؟
واذا تعطرت المرأة بدون نية أن تفتن أحدا بها، ولكن من باب التطيب لذاتها وخرجت من منزلها. فهل ذلك محرم أيضا، حتى لو وضعت كمية قليلة جدا؟
وهل يجوز للمرأة رش الملابس بالعطر وقت غسلها، والخروج بها وقت الخروج لإبقاء رائحة طيبة وغير كريهة عند الخروج؟
ولكم جزيل الشكر.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن من المعلوم من أدلة الشرع -وهو الواقع المشاهد أيضا- أن افتتان الرجال بالنساء، أشد وأعظم من افتتان النساء بالرجال. ولو صح سؤالك، لكان يقال مثله في كل حكم خص به النساء سدا لفتنة الرجال بهن، كأن يقال لِمَ فرض الحجاب على النساء دون الرجال؟ وغير ذلك من الأحكام، ولا يخفى فساد هذا القول.

وينبغي أن يعلم المسلم أن عليه الانقياد والتسليم للحكم الشرعي، وإن لم يعلم الحكمة منه، وأن يحذر تكلف التماس العلة تعنتا واعتراضا على الحكم الشرعي.

قال ابن عثيمين: فنهيُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وأمره الشَّرعي هو العِلَّة بالنسبة للمؤمن, بدليل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].

فالمؤمن يقول: سمعنا وأطعنا, ويدلُّ لذلك أن عائشة سُئِلت: ما بالُ الحائض تقضي الصَّوم ولا تقضي الصَّلاة؟ قالت: «كان يُصيبنا ذلك؛ فنُؤمر بقضاء الصوم، ولا نُؤمر بقضاء الصَّلاة»، فبيَّنت أنَّ العِلَّة في ذلك هو الأمر, لكن ذلك لا يمنع أن يتطلَّبُ الإنسان الحكمةَ المناسبة؛ لأنه يعلم أن أوامر الشَّرع ونواهيه كلها لحكمة، فما هي الحكمة؟ وسؤال الإنسان عن الحكمة في الأحكام الشرعية أو الجزائية أمرٌ جائز، بل قد يكون مطلوبًا إذا قُصِدَ به العلم؛ ولهذا لمَّا قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم في النساء: «إنَّكُنَّ أكثرُ أهلِ النَّارِ»، قُلْن: بِمَ يا رسولَ الله؟ فسألن عن الحِكمة؟ قال: «لأنَّكُنَّ تُكثِرْنَ اللَّعنَ, وتَكْفُرْنَ العَشير».

وأما إذا قصد أنَّه إن بانت العِلَّة امتثل وإلا فلا، فالسؤال حينئذ حرام؛ لأنه لازمُه قَبُول الحقِّ إنْ وافق هواه، وإلا فلا. اهـ. من الشرح الممتع.

وقد ذكرنا الأدلة على حرمة تطيب المرأة عند الخروج من المنزل، في الفتوى: 118844، لكن إذا تطيبت المرأة وخرجت من بيتها وكانت لن تمر في طريقها برجال يجدون ريحها، فهو ليس بمحرم.

ويدل على هذا ما جاء في سنن أبي داود عن عائشة بنت طلحة أن عائشة أم المؤمنين حدثتها قالت: كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فنضمد جباهنا بالسك المطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها، فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهاها.

وقال العلامة ابن باز -رحمه الله تعالى- في مجموع فتاويه: يجوز لها الطيب إذا كان خروجها إلى مجمع نسائي لا تمر في الطريق على الرجال. أما خروجها بالطيب إلى الأسواق التي فيها الرجال، فلا يجوز. انتهى.

فالكلام إنما هو عن تطيب المرأة إذا كان الرجال الأجانب يجدون ريحها، وهنا يرى بعض العلماء أن التحريم معلق بالتحقق من فتنة الرجال، أو غلبة الظن بها. وأما مجرد خشية الفتنة -دون تحقق أو ظن غالب- فلا توجب التحريم.

جاء في الزواجر للهيتمي: (الكبيرة التاسعة والسبعون بعد المائتين: خروج المرأة من بيتها متعطرة متزينة ولو بإذن الزوج) أخرج أبو داود والترمذي، وقال حسن صحيح: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا» يعني زانية. والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما: «أيما امرأة استعطرت، فمرت على قوم؛ ليجدوا ريحها، فهي زانية، وكل عين زانية». ورواه الحاكم وصححه. وصح، على كلام فيه لا يضر: «أن امرأة مرت بأبي هريرة -رضي الله عنه- وريحها يعصف، فقال لها: أين تريدين يا أمة الجبار؟ قالت إلى المسجد؛ قال: وتطيبت له؟ قالت: نعم. قال: فارجعي فاغتسلي؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يقبل الله من امرأة خرجت إلى المسجد لصلاة وريحها يعصف حتى ترجع فتغتسل». واحتج به ابن خزيمة إن صح.
وليس المراد خصوص الغسل بل إذهاب رائحتها.

تنبيه: عد هذا هو صريح هذه الأحاديث، وينبغي حمله ليوافق قواعدنا على ما إذا تحققت الفتنة، أما مع مجرد خشيتها فهو مكروه، أو مع ظنها فهو حرام غير كبيرة، كما هو ظاهر.اهـ. باختصار.
ومن العلماء من يرى أن التحريم معلق بقصد المرأة ونيتها فتنة الرجال، فإذا لم تقصد ذلك لم يحرم عليها، وإن وجد الرجال طيبها.

جاء في البيان والتحصيل لابن رشد الجد: وسئل مالك عما يكون في أرجل النساء من الخلاخل، قال: ما هذا الذي جاء فيه الحديث، وتركه أحب إلي من غير تحريم له.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة -والله أعلم- أن مالكا إنما سئل عما يجعله النساء في أرجلهن من الخلاخل، وهن إذا مشين بها سمعت قعقعتها، فرأى ترك ذلك أحب إليه من غير تحريم؛ لأن الذي يحرم عليهن إنما هو ما جاء النهي فيه من أن يقصدن إلى إسماع ذلك وإظهاره من زينتهن لمن يخطرن عليه من الرجال: قال الله عز وجل: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31]. ومن هذا المعنى ما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما امرأة استعطرت فمرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية».اهـ.

وراجع للفائدة، الفتوى: 45636.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني