الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التفريق بين الشك الذي يُبنى فيه على الأقل وما يُبنى على أول خاطر

السؤال

كيفية التفريق بين الشكّ الذي يُبنى فيه على الأقلّ، كمن شكّ هل صلى اثنتين أم ثلاث، والشكّ الذي يُبنى فيه على أول ما يطرأ على الذهن، فيصلّي ثلاثًا إن كان أول ما طرأ على ذهنه أنه صلّى ثلاثًا؟ وما الدليل على النوع الثاني؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالتفريق بين الشك الذي يُبنى فيه على الأقل، والشك الذي يبنى فيه على أول ما يطرأ على الذهن، أو بعبارة الشيوخ: على أول الخاطرين:

أن الشخص إذا لم يكن موسوسًا، فإن الأصل في حقه أن يعمل باليقين، ويبني على الأقل، ويأتي بما شك فيه، ثم يسجد سجدتي السهو؛ لما في صحيح مسلم، وغيره من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدرِ كم صلى ثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشك، وليبنِ على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا، شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتمامًا لأربع، كانتا ترغيمًا للشيطان.

قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في المجموع: فرع: في مذاهب العلماء فيمن شك في عدد الركعات، وهو في الصلاة:

مذهبنا: أنه يبني على اليقين، ويأتي بما بقي، فإذا شك هل صلى ثلاثًا أم أربعًا؟ لزمه أن يأتي بركعة إذا كانت صلاته رباعية، سواء كان شكه مستوي الطرفين، أو ترجح احتمال الأربع، ولا يعمل بغلبة الظن؛ سواء طرأ هذا الشك أول مرة أم تكرر، قال الشيخ أبو حامد: وبمثل مذهبنا قال أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عمر، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وشريح، وربيعة، ومالك، والثوري. انتهى.

وأما الشخص المستنكح - وَهُوَ الَّذِي يَعْتَرِيهِ الشَّكُّ كَثِيرًا - أو الموسوس: فمعنى بنائه على أول خاطريه أنه إذا سبق له خاطر بأن صلاته قد تمت، ثم جاءه خاطر آخر بأنها لم تتم مثلًا، فإنه يبني على أنها قد تمت، والعكس صحيح، وهذا قول في المذهب المالكي، قال به ابن الحاجب، وبعض القرويين، قال النفراوي المالكي في الفواكه الدواني: المستنكح.. يجب عليه البناء على الأكثر، ولا يبني على أول خاطريه، خلافًا لابن الحاجب، وبعض القرويين في قولهم: إن الموسوس يبني على أول خاطريه، فإن سبق له خاطر بأن صلاته تمّت، ثم قيل له: إنها لم تتم، فإنه يبني على أنها تمت، وعكسه. والذي عليه خليل، والمدونة ما ذكره المصنف، ووجهه: أن المستنكح لم ينضبط له خاطر أول من غيره، كما يشهد بذلك الوجدان، إذا الشاك متردد بين أمرين في زمن واحد. انتهى.

والمعتمد في المذهب المالكي هو ما في المدونة، والشيخ خليل في المختصر من أن الموسوس لا يبني على أول خاطريه؛ إذ إن غلبة الظن والشك سواء بالنسبة له، وأنه يبني على الأكثر، سواء شك، أم غلب على ظنه ما لم يصل إلى اليقين، فيعمل بما تيقن به, ودليل ذلك ما جاء في فتاوى الشيخ عليش مبينًا ضابط من استنكحه الشك وحكمه: ضَابِطُ اسْتِنْكَاحِ الشَّكِّ: إتْيَانُهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَلَوْ مَرَّةً، سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ صِفَةُ إتْيَانِهِ أَوْ اخْتَلَفَتْ، كَأَنْ يَأْتِيَهُ يَوْمًا فِي نِيَّتِهِ، وَيَوْمًا فِي تَكْبِيرَةِ إحْرَامِهِ، وَيَوْمًا فِي الْفَاتِحَةِ، وَيَوْمًا فِي الرُّكُوعِ، وَيَوْمًا فِي السُّجُودِ، وَيَوْمًا فِي السَّلَامِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنْ أَتَاهُ يَوْمًا وَفَارَقَهُ يَوْمًا، فَلَيْسَ اسْتِنْكَاحًا، وَحُكْمُهُ وُجُوبُ طَرْحِهِ، وَاللَّهْوُ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الْأَكْثَرِ؛ لِئَلَّا يُعْنِتَهُ، وَيَسْتَرْسِلُ مَعَهُ حَتَّى لِلْإِيمَانِ -وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى-، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ كَثِيرًا فِي كَثِيرٍ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ، وَيُنْدَبُ السُّجُودُ بَعْدَ السَّلَامِ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ، سَمِعَ أَشْهَبَ مَالِكًا يَقُولُ: وَمَنْ شَكَّ فِي قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ، فَإِنْ كَثُرَ هَذَا عَلَيْهِ، لَهَا عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، فَلْيَقْرَأْ، وَكَذَا سَائِرُ مَا شَكَّ فِيهِ. انتهى.

وقال الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير: وَحُكْمُهُ: أَنْ يلهي عنه, وَلَا إصْلَاحَ عليه, بَلْ يَبْنِي على الْأَكْثَرِ, وَلَكِنْ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ اسْتِحْبَابًا, كما في عِبَارَةِ عبد الْوَهَّابِ. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني