الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تعريف الإيمان والعمل الصالح عند اقترانهما وكيفية تحقيقهما

السؤال

في القرآن الكريم يرغّب الله كثيرًا في ثلاثة أمور: التقوى، والإيمان، والعمل الصالح، وأعلم أن التقوى هي فعل الأوامر، وترك النواهي. ومراتبها: المقتصد، والسابق بالخيرات. وكيفية تحقيقها بالعلم بجميع الأوامر، وجميع النواهي الواردة في القرآن والسنة، ثم تنفيذها. فما تعريف الإيمان والعمل الصالح عند اقترانهما ببعضهما؟ وما كيفية تحقيقهما؟ وهل لهما مراتب متفاضلة محددة؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن الإيمان والعمل الصالح إذا قُرنا؛ فإن الإيمان يراد به ما في القلب، والعمل الصالح يراد به أعمال الجوارح، وقيل: بل هو من باب عطف الخاص على العام، قال ابن تيمية: فإن الإيمان إذا أطلق، دخلت فيه الأعمال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {الإيمان بضع وستون شعبة - أو بضع وسبعون شعبة - أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان}، وإذا عطف عليه العمل، كقوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات}، فقد ذكر مقيدًا بالعطف، فهنا قد يقال: الأعمال دخلت فيه، وعطفت عطف الخاص على العام.

وقد يقال: لم تدخل فيه، ولكن مع العطف، كما في اسم الفقير والمسكين - إذا أفرد أحدهما تناول الآخر، وإذا عطف أحدهما على الآخر، فهما صنفان، كما في آية الصدقات، كقوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين}، وكما في آية الكفارة، كقوله: {فكفارته إطعام عشرة مساكين}، وفي قوله: {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم}، فالفقير والمسكين شيء واحد. وهذا التفصيل في الإيمان هو كذلك في لفظ البر، والتقوى، والمعروف. وفي الإثم، والعدوان، والمنكر: تختلف دلالتها في الإفراد والاقتران لمن تدبر القرآن. وقد بسط هذا بسطًا كبيرًا في الكلام على الإيمان، وشرح حديث جبريل الذي فيه بيان أن الإيمان أصله في القلب؛ وهو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الإسلام علانية، والإيمان في القلب}. اهـ. من مجموع الفتاوى.

وقال أيضًا في كتابه: الإيمان: وأما إذا قُيِّدَ الإيمان، فقرن بالإسلام، أو بالعمل الصالح، فإنه قد يراد به ما في القلب من الإيمان باتفاق الناس. وهل يراد به أيضًا المعطوف عليه، ويكون من باب عطف الخاص على العام، أو لا يكون حين الاقتران داخلًا في مسماه، بل يكون لازمًا له، على مذهب أهل السنة، أو لا يكون بعضًا ولا لازمًا، هذا فيه ثلاثة أقوال للناس.

وهذا موجود في عامة الأسماء يتنوع مسماها بالإطلاق والتقييد، مثال ذلك لفظ [العبادة]، فإذا أمر بعبادة الله مطلقًا، دخل في عبادته كل ما أمر الله به، فالتوكل عليه مما أمر به، والاستعانة به مما أمر به، فيدخل ذلك في مثل قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وفي قوله: {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [النساء:36]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21]، وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} [الزمر:2]، {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي} [الزمر:14]، وقوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64].

وإذا قيل: {فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ} [الأعراف:185]، دخل في الإيمان برسوله الإيمان بجميع الكتب والرسل والنبيين، وكذلك إذا قيل: {وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} [الحديد 28]، وإذا قيل: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، دخل في الإيمان بالله ورسوله الإيمان بذلك كله، والإنفاق يدخل في قوله في الآية الأخرى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، كما يدخل القول السديد في مثل قوله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} [النساء:131].
وكذلك لفظ [البر] إذا أطلق تناول جميع ما أمر الله به، كما في قوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13-14]، وقوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة:189]، وقوله: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]، فالبر إذا أطلق كان مسماه مسمى التقوى، والتقوى إذا أطلقت كان مسماها مسمى البر، ثم قد يجمع بينهما، كما في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2].

وهذه الأسماء التي تختلف دلالتها بالإطلاق والتقييد والتجريد والاقتران، تارة يكونان إذا أفرد أحدهما أعم من الآخر، كاسم [الإيمان] و[المعروف] مع العمل، ومع الصدق، وكـ[المنكر] مع الفحشاء، ومع البغي، ونحو ذلك. وتارة يكونان متساويين في العموم والخصوص، كلفظ [الإيمان]، و[البر]، و[التقوى]، ولفظ [الفقير]، و[المسكين]، فأيها أطلق تناول ما يتناوله الآخر. اهـ.

فيتبين من كلامه -رحمه الله- أن التقوى إذا أفردت، فإنها تدل على ما يدل عليه الإيمان، وكذلك لفظ البر، ونحوه، قال ابن باز: قال الله عز وجل: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران:19]، فيدخل فيه الإيمان عند أهل السنة والجماعة؛ فإنه لا إسلام إلا بإيمان. فالدين عند الله هو الإسلام، وهو الإيمان، وهو الهدى، وهو التقوى، وهو البر، فهذه الأسماء وإن اختلفت ألفاظها، فإنها ترجع إلى معنى واحد، وهو الإيمان بالله ورسله، والاهتداء بهدي الله، والاستقامة على دين الله، فكلها تسمى برًّا، وتسمى إيمانًا، وتسمى إسلامًا، وتسمى تقوى، وتسمى هدى. اهـ.

وبهذا يتبين جواب سؤالك: فكيفية تحقيق الإيمان هي كيفية تحقيق التقوى، وذلك بفعل الفرائض، واجتناب النواهي.

وكماله بالمسارعة في المستحبات، والبعد عن المكروهات.

والمراتب التي أشرت إليها -السابق بالخيرات، والمقتصد، والظالم لنفسه- هي مراتب للإيمان، قال ابن سعدي في شجرة الإيمان: الإيمان يشمل عقائد الدين، وأخلاقه، وأعماله الظاهرة والباطنة. ويترتب على ذلك أنه يزيد بزيادة هذه الأوصاف والتحقق بها، وينقص بنقصها، وأن الناس في الإيمان درجات متفاوتة بحسب تفاوت هذه الأوصاف؛ ولهذا كانوا ثلاث درجات: سابقون مقربون، وهم: الذين قاموا بالواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات وفضول المباحات. ومقتصدون، وهم: الذين قاموا بالواجبات، وتركوا المحرمات. وظالمون لأنفسهم، وهم: الذين تركوا بعض واجبات الإيمان، وفعلوا بعض المحرمات، كما ذكرهم الله بقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32].

وقد يعطف الله على الإيمان، الأعمال الصالحة، أو التقوى، أو الصبر؛ للحاجة إلى ذكر المعطوف؛ لئلا يظن الظان أن الإيمان يكتفى فيه بما في القلب، فكم في القرآن من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، ثم يذكر خبرًا عنهم. والأعمال الصالحات من الإيمان، ومن لوازم الإيمان، وهي التي يتحقق بها الإيمان، فمن ادعى أنه مؤمن - وهو لم يعمل بما أمر الله به ورسوله من الواجبات، ومن ترك المحرمات -، فليس بصادق في إيمانه. كما يقرن بين الإيمان والتقوى، في مثل قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63].

فذكر الإيمان الشامل لما في القلوب من العقائد، والإرادات الطيبة، والأعمال الصالحة. ولا يتم للمؤمن ذلك حتى يتقي ما يسخط الله من الكفر، والفسوق، والعصيان؛ ولهذا حقق ذلك بقوله: {وَكَانُوا يَتَّقُونَ}، كما وصف الله بذلك خيار خلقه بقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:7 - 8]. اهـ.

ونعتذر عن إجابة سؤالك الآخر، لأننا بيّنّا في خانة إدخال الأسئلة أنه لا يسمح إلا بإرسال سؤال واحد فقط في المساحة المعدة لذلك، وأن الرسالة التي تحوي أكثر من سؤال سيتم الإجابة عن السؤال الأول منها، وإهمال بقية الأسئلة.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني