الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قتل الكلب الأسود... رؤية شرعية

السؤال

لقد شاهدت أحد المقاطع من قناة مشهورة جدا في الويب، تتحدث عن أمر الإسلام بقتل الكلاب السوداء.
وعندما اطلعت على التعليقات وجدت أن 99 بالمئة حرفيا من الناس ينكرون الحديث الوارد في المقطع، ويتوعدون من كذب على رسول الله بجهنم. ويقولون: كيف لنبي أرسله الله رحمة للعالمين، أن يأمر بقتل مخلوق لا لشيء إلا للونه!
وقد سمعت أن المسألة فيها خلاف فقهي بين العلماء، حول ما إذا كان هذا الأمر قد نسخ أيضا مع بقية أنواع الكلاب.
وسؤالي هو: كيف يمكن التعامل مع هذه الآراء؟ وهل الأولى ترك التطرق لهذه النصوص الشرعية؛ لأنه لا يترتب على ذكرها سوى تشكيك جملة كبيرة من الناس إما في السنة، أو قد يصل بعضهم إلى الكفر -والعياذ بالله- خصوصا وأن غير المختصين قد يشكل عليهم الجمع بين أحاديث الإحسان كحديث الذي سقى كلبا، وحديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عندما أمر بتغيير مسار الجيش من أجل كلبة، وبين الحديث المذكور أعلاه؟
وشكرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا ريب في أن الأمر بقتل الكلب الأسود ليس لمجرد لونه، وإلا فأنواع الحيوانات السود كثيرة، ولم نؤمر بقتل شيء منها، بل إن بعضها مما يُحمد. ففي الحديث الصحيح: خير الخيل الأدهم. رواه أصحاب السنن وابن حبان، وصححه الألباني. والأدهم: الأسود، والدهمة السواد، كما قال شراح الحديث.
وكذلك ليس لكونه كلبا، فقد أباح الشرع اتخاذ الكلاب للمنافع المباحة، كالصيد والماشية والزرع، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية، أو صيد، أو زرع؛ انتقص من أجره كل يوم قيراط. رواه البخاري ومسلم.
وعلى ذلك؛ ففي خصوص الكلب الأسود من المضرة ما يستدعي قتله، ولا يتعارض ذلك مع الرحمة الإنسانية، التي لا تتعارض مع قتل كل مؤذ، كالحية والعقرب، والكلب العقور. وقد ثبت في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: الكلب الأسود شيطان. رواه مسلم.
قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: ليست تخلو الكلاب من أن تكون أمة من أمم السباع، أو تكون أمة من الجن ... وهذه الأمور لا تدرك بالنظر والقياس والعقول، وإنما ينتهى فيها إلى ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ... وليس علينا وكف ولا نقص من أن تكون الكلاب من السباع، أو الجن، أو الممسوخ.

فإن كانت من السباع، فإنما أمر بقتل الأسود منها، وقال: "هو شيطان"؛ لأن الأسود البهيم منها أضرها وأعقرها، والكَلَب (يعني داء الكلب) إليه أسرع منه إلى جمعها، وهو مع هذا أقلها نفعا وأسوؤها حراسة، وأبعدها من الصيد، وأكثرها نعاسا.

وقال: "هو شيطان" يريد: أنه أخبثها، كما يقال فلان شيطان .. يراد: أنه شبيه بذلك.

وإن كانت الكلاب من الجن، أو كانت ممسوخا من الجن، فإنما أراد أن الأسود منها شيطانها، فاقتلوه لضره، والشيطان هو: مارد الجن. والجن هم الضعفة .. اهـ.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها كلها؛ فاقتلوا منها كل أسود بهيم. رواه أحمد وأصحاب السنن، وصححه الألباني.

قال الخطابي في معالم السنن: معناه أنه كره إفناء أمة من الأمم، وإعدام جيل من الخلق حتى يأتي عليه كله فلا يبقي منه باقية؛ لأنه ما من خلق لله تعالى إلا وفيه نوع من الحكمة وضرب من المصلحة.

يقول: إذا كان الأمر على هذا، ولا سبيل إلى قتلهن كلهن، فاقتلوا شرارهن، وهي السود البهم، وأبقوا ما سواها لتنتفعوا بهن في الحراسة.

ويقال إن السود منها شرارها وعُقُرها. اهـ.
هذا .. ومن أهل العلم من قال بنسخ الأمر بقتل الأسود البهيم من الكلاب.

قال الحافظ ابن عبد البر في الاستذكار: قال جماعة من أهل العلم: الأمر بقتل الكلاب منسوخ إلا في الأسود البهيم فإنه يقتل .. وقال بعض من ذهب هذا المذهب: الأسود البهيم من الكلاب أكثر أذى، وأبعدها من تعلم ما ينفع. ورووا أن الكلب البهيم الأسود شيطان، أي بعيد من الخير والمنافع، قريب من الضر والأذى وهذا شأن الشياطين من الإنس والجن ...

وذهب كثير من العلماء إلى أن لا يقتل من الكلاب أسود ولا غير أسود، إلا أن يكون عقورا مؤذيا. وقالوا: الأمر بقتل الكلاب منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا" فدخل في نهيه ذلك الكلاب وغيرها. وقال صلى الله عليه وسلم: "خمس من الدواب يقتلن في الحل والحرم - فذكر منها الكلب العقور - فخص العقور دون غيره .. واحتجوا بالحديث الصحيح في الكلب الذي كان يلهث عطشا فسقاه الرجل، فشكر الله له ذلك وغفر له بذلك، وقال: "في كل كبد رطبة أجر" ... وليس هذه حال من يجب قتله؛ لأن المأمور بقتله مأجور قاتله، ومأجور المعين على قتله. وإذا كان في الإحسان إلى الكلب أجر، ففي الإساءة إليه وزر، والإساءة إليه أعظم من قتله. وليس في قوله صلى الله عليه وسلم: "الكلب الأسود البهيم شيطان" ما يدل على قتله؛ لأن شياطين الجن والإنس لم يؤمر بقتلهم. وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يتبع حمامة فقال: "شيطان يتبع شيطانة" .. اهـ.
وذكر نحو ذلك في كتاب التمهيد وزاد: والذي أختاره في هذا الباب أن لا يقتل شيء من الكلاب إذا لم تضر بأحد، ولم تعقر أحدا ..

ومن الحجة أيضا لما ذهبنا إليه في أن الأمر بقتل الكلاب منسوخ، ترك قتلها في كل الأمصار على اختلاف الأعصار بعد مالك -رحمه الله- وفيهم العلماء والفضلاء ممن يذهب مذهب مالك وغيره، ومن لا يسامح في شيء من المناكر والمعاصي الظاهرة إلا ويبدر إلى إنكارها، وينب إلى تغييرها. وما علمت فقيها من الفقهاء المسلمين، ولا قاضيا عالما قضى برد شهادة من لم يقتل الكلاب التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها، ولا جعل اتخاذ الكلاب في الدور جرحة يرد بها شهادة، ولولا علمهم بأن ذلك من أمر النبي صلى الله عليه وسلم كان لمعنى وقد نسخ، ما اتفقت جماعتهم على ترك امتثال أمره صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لا يجوز على جميعهم الغلط وجهل السنة. اهـ.

وراجع لمزيد الفائدة، الفتويين: 167917، 354988.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني