الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

النظر المحرم من دواعي الوقوع في الشرك

السؤال

هل الإصرار على النظر الحرام، يمكن أن يؤدي بصاحبه إلى الشرك، كما قال ابن تيمية؟ وكيف يكون ذلك؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن توجيه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا هو: أن النظر المحرم قد يؤدي إلى التعلق بالصور وعشقها، والعشق المحرم قد يقود العبد إلى الوقوع في الشرك -عياذًا بالله تعالى-، وقد شرح ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم هذا المعنى في مواطن عدة من كتبهما، قال ابن تيمية: فإن الزنى من الكبائر، وأما النظر والمباشرة، فاللمم منها مغفور باجتناب الكبائر.

فإن أصر على النظر، أو على المباشرة، صار كبيرة، وقد يكون الإصرار على ذلك أعظم من قليل الفواحش؛ فإن دوام النظر بالشهوة، وما يتصل به من العشق، والمعاشرة، والمباشرة، قد يكون أعظم بكثير من فساد زنى لا إصرار عليه؛ ولهذا قال الفقهاء في الشاهد العدل: أن لا يأتي كبيرة، ولا يصر على صغيرة. وفي الحديث المرفوع: لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار.

بل قد ينتهي النظر، والمباشرة بالرجل إلى الشرك، كما قال تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله.

ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله، وضعف الإيمان، والله تعالى إنما ذكره في القرآن عن امرأة العزيز المشركة، وعن قوم لوط المشركين. والعاشق المتيم، يصير عبدًا لمعشوقه، منقادًا له، أسير القلب له. انتهى من مجموع الفتاوى.

وقال أيضًا: النظر يؤكّد المحبة؛ فيكون علاقة لتعلق القلب بالمحبوب؛ ثم صبابة لانصباب القلب إليه؛ ثم غرامًا للزومه للقلب، كالغريم الملازم لغريمه؛ ثم عشقًا، إلى أن يصير تتيمًا، والمتيم المعبد، وتيم الله عبد الله.

فيبقى القلب عبًدا لمن لا يصلح أن يكون أخًا، بل ولا خادمًا. وهذا إنما يبتلى به أهل الإعراض عن الإخلاص لله، كما قال تعالى في حق يوسف: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين.

فامرأة العزيز كانت مشركة، فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء.

ويوسف مع عزوبته، ومراودتها له، واستعانتها عليه بالنسوة، وعقوبتها له بالحبس على العفة: عصمه الله؛ بإخلاصه لله؛ تحقيقًا لقوله: لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين. قال تعالى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين. والغي هو اتباع الهوى. وهذا الباب من أعظم أبواب اتباع الهوى. انتهى من مجموع الفتاوى.

وقال ابن القيم: ومحبة الصور المحرمة وعشقها، من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك وأبعد من الإخلاص، كانت محبته بعشق الصور أشد. وكلما كان أكثر إخلاصًا وأشد توحيدًا، كان أبعد من عشق الصور.

ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق؛ لشركها. ونجا منه يوسف الصديق -عليه السلام- بإخلاصه، قال تعالى: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ. [يوسف:24]. انتهى من إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان.

وقال أيضًا: فأصحاب العشق الشيطاني، لهم من تولي الشيطان والإشراك به بقدر ذلك؛ لما فيهم من الإشراك بالله، ولما فاتهم من الإخلاص له، ففيهم نصيب من اتخاذ الأنداد؛ ولهذا ترى كثيرًا منهم عبدًا لذلك المعشوق، متيمًا فيه، يصرخ في حضوره ومغيبه: أنه عبده، فهو أعظم ذكرًا له من ربه، وحبه في قلبه أعظم من حب الله فيه، وكفى به شاهدًا بذلك على نفسه؛ فالإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره.

فلو خير بين رضاه ورضا الله؛ لاختار رضا معشوقه على رضا ربه، ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه، وتمنيه لقربه أعظم من تمنيه لقرب ربه. وهربه من سخطه عليه، أشد من هربه من سخط ربه عليه، يسخط ربه بمرضاة معشوقه، ويقدم مصالح معشوقه وحوائجه على طاعة ربه، فإن فضل من وقته فضلة، وكان عنده قليل من الإيمان، صرف تلك الفضلة في طاعة ربه، وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه ومصالحه، صرف زمانه كله فيها، وأهمل أمر الله تعالى، يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس، ويجعل لربه من ماله إن جعل له كل رذيلة وخسيس، فلمعشوقه لبه وقلبه، وهمه ووقته، وخالص ماله، وربه على الفضلة، قد اتخذه وراءه ظهريًّا، وصار لذكره نسيًّا، إن قام في خدمته في الصلاة، فلسانه يناجيه، وقلبه يناجي معشوقه، ووجه بدنه إلى القبلة، ووجه قلبه إلى المعشوق، ينقر خدمة ربه؛ حتى كأنه واقف في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه، وتكلفه لفعلها، فإن جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه فرحًا بها، ناصحًا له فيها، خفيفة على قلبه، لا يستثقلها، ولا يستطيلها.

ولا ريب أن هؤلاء من الذين اتخذوا من دون الله أندادًا، يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبًّا لله.

وعشقهم يجمع المحرمات الأربع: من الفواحش الظاهرة والباطنة، والإثم، والبغي بغير الحق، والشرك بالله ما لم ينزل به سلطانًا، والقول على الله ما لا يعلمون؛ فإن هذا من لوازم الشرك، فكل مشرك يقول على الله ما لا يعلم، فكثيرًا ما يوجد في هذا العشق من الشرك الأكبر والأصغر، ومن قتل النفوس تغايرًا على المعشوق، وأخذ أموال الناس بالباطل؛ ليصرفها في رضا المعشوق، ومن الفاحشة، والكذب، والظلم، ما لا خفاء به.

وأصل ذلك كله من خلو القلب من محبة الله تعالى، والإخلاص له، والتشريك بينه وبين غيره في المحبة، ومن محبة ما يحب لغير الله، فيقوم ذلك بالقلب، ويعمل بموجبه بالجوارح، وهذا هو حقيقة اتباع الهوى. انتهى من إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان.

وراجع للفائدة الفتاوى: 96693، 178167، 301633.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني