الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يؤاخذ في الآخرة من قتل جماعة من الناس وتاب وأقيم عليه الحد؟

السؤال

لي أحد معارفي قد قتل عددا من الأشخاص بدون حق، وقد أخذته الشرطة، وطبقت عليه عقوبة الإعدام، ولكنه بعدما قتل ندم ندما شديدا، وقد حزنا جميعا لفعلته، ولظلمه العظيم لنفسه، ولكني قرأت أن من أصاب حدا من حدود الله؛ كالقتل، فأخذ عقوبته، كانت كفارة له، ولا يعاقب في الآخرة.
ولكنني لا أعرف حكمه، فهو لم يقتل شخصا واحدا، بل قتل مجموعة من الأشخاص؛ رجلا، وامرأة، وطفلا. فهل يعدم ثلاث مرات؟ أم ماذا؟
ما أقصده هو: هل هو لأنه أعدم كان الإعدام كفارة له عن الثلاثة؟ أم سيأخذ في الآخرة عقوبة قتل شخصين؛ لأنه طبق عليه إعدام واحد،
وأعتذر جدا عن جهلي، فسني صغيرة.
فقد جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مجلس فقال: تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفى منكم، فأجره على الله، ومن أصاب شيئا من ذلك، فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب شيئا من ذلك، فستره الله، فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه.
هذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن من أصاب حدا من حدود الله، وأقيم عليه الحد في الدنيا، أن ذلك كفارة لذنبه، ولا عقوبة عليه في الآخرة.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلا ريب في أن القتل في القصاص لا يكون إلا مرة واحدة، سواء أقتل واحدا، أو أمة من الناس. فليس هذا هو النظر، وإنما النظر في مسألتين:

الأولى: هل للقاتل توبة أم لا؟ والجواب أن له توبة على الراجح من قول جمهور أهل العلم.

والثانية: إذا تاب القاتل، وقتل قصاصا، هل يبقى عليه يوم القيامة حق للمقتول؟ باعتبار أن القتل فيه ثلاثة حقوق: حق لله، وحق للمقتول، وحق للوارث. فحق الله يزول بالتوبة، وحق الوارث يستوفى بالقصاص، فيبقى حق المقتول الذي ظلم، وفاتت عليه نفسه، ولم يستدرك ظلامته.

وقد فصَّل ابن القيم هذه المسألة في «مدارج السالكين»، وذكر حجج القولين، ثم قال: الصواب -والله أعلم- أن يقال: إذا تاب القاتل من حق الله، وسلم نفسه طوعا إلى الوارث ليستوفي منه حق موروثه سقط عنه الحقان، وبقي حق الموروث لا يضيعه الله، ويجعل من تمام مغفرته للقاتل تعويض المقتول؛ لأن مصيبته لم تنجبر بقتل قاتله، والتوبة النصوح تهدم ما قبلها، فيعوض هذا عن مظلمته، ولا يعاقب هذا لكمال توبته. اهـ. وانظر للفائدة الفتويين: 36835، 288031.

وعلى ذلك؛ فإقامة القصاص مع التوبة النصوح التي يقبلها الله؛ تكفر عن القاتل ذنبه، ولا يؤاخذ به في الآخرة، سواء أقتل واحدا، أو جماعة، فمن قتل جماعة ثم تاب توبة نصوحا مستوفية لشروطها، فلا يؤاخذ في الآخرة، كما يدل عليه حديث قاتل المائة نفس، والله تعالى بكرمه يعوض كل قتيل عن مظلمته، ولا يعاقب التائب، كما سبق في ترجيح ابن القيم. أو لأن المقتول قد عُوِضَ عن حقه بمجرد القتل، وذلك بتكفير ذنوبه.

قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قال ابن التين: وحكي عن القاضي إسماعيل وغيره أن قتل القاتل إنما هو رادع لغيره، وأما في الآخرة فالطلب للمقتول قائم؛ لأنه لم يصل إليه حق. قلت: بل وصل إليه حق وأي حق؛ فإن المقتول ظلما تكفر عنه ذنوبه بالقتل، كما ورد في الخبر الذي صححه ابن حبان وغيره: "إن السيف محاء للخطايا". وعن ابن مسعود قال: "إذا جاء القتل محا كل شيء" رواه الطبراني. وله عن الحسن بن علي نحوه، وللبزار عن عائشة مرفوعا: "لا يمر القتل بذنب إلا محاه" فلولا القتل ما كفرت ذنوبه، وأي حق يصل إليه أعظم من هذا؟ ولو كان حد القتل إنما شرع للردع فقط لم يشرع العفو عن القاتل. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني