الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، إِلَّا لِخَمْسَةٍ: لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ لِغَارِمٍ، أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ، فَتُصُدِّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ، فَأَهْدَاهَا الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ"، ومعلوم أن الصدقة تحلّ لابن السبيل، وللمؤلفة قلوبهم مع أنهم أغنياء، فكيف لم يذكرهم رسول الله؟
وعلى هذا، فما رأيكم لو قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقصد هنا مطلق الزكاة، ولكن يقصد الزكاة المردودة على صاحبها، بحيث لا يحلّ للغنيّ أن يطلب شراء زكاته أبدًا، إلا أن يقوم الفقير بعرضها عليه شخصيًّا؛ لأنه لو عرضها في السوق فلا يحلّ للمتصدّق طلب شرائها؛ لأنه سيضطرّ البائع إلى تخفيض الثمن رجاء الحصول على الزكاة منه في حول آخر، وينبني على ذلك طبيعة الزكاة بين الزوجين، وعدم إجازة دفع أهل المقتول للدية من زكاتهم؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فهذا الحديث المذكور، قد أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وهو صحيح.

ولكن هذا التأويل الذي حملت عليه الحديث، لا يصحّ البتة، ولا ذكره أحد من شراح الحديث، ولا يدلّ له لفظ الحديث الذي يفيد العموم من قريب، ولا بعيد.

والواجب الرجوع إلى أهل العلم، وعدم الاستقلال بفهم النصوص، أو حملها على محامل بعيدة بمجرد بادي الرأي.

وأما ابن السبيل، فهو فقير في الحال الذي يُعطَى فيه من الزكاة، وإن كان غنيًّا في بلده، لكنه يُعطَى لحاجته في تلك الحال؛ فلا يشكل على الحصر الوارد في الحديث، وقد وقع في بعض روايات أبي داود: لا تحلّ الصدقة لغنيّ، إلا في سبيل الله، أو ابن السبيل.

قال شمس الحق في شرحه: ( إلا في سبيل الله، أو ابن السَّبِيلِ) قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ: حَدِيثُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَصَحُّ طَرِيقًا، ليس فيه ذكر ابن السَّبِيلِ. فَإِنْ صَحَّ هَذَا، فَإِنَّمَا أَرَادَ -وَاللَّهُ أعلم- أن ابن السَّبِيلِ غَنِيٌّ فِي بَلَدِهِ، مُحْتَاجٌ فِي سَفَرِهِ. انْتَهَى.

وأما المؤلفة قلوبهم، فحيث جاز الدفع إليهم -على القول ببقاء سهمهم-، فلا إشكال أيضًا؛ لأنهم يُعطَون لمصلحة المسلمين، لا لمصلحة أنفسهم.

ثم إن المفهوم إذا عارضه منطوق، قدّم عليه المنطوق -كما هو مقرر في الأصول-.

وهاك شرح الحديث من عون المعبود؛ ليتبين لك ما ذكره في معناه أهل العلم، وأنه بمعزل عما ذكرته تمامًا، قال شمس الحق:

(لغنِيٍّ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء والمساكين (إِلا لخمسة) فتَحِلُّ لَهُمْ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ؛ لِأَنَّهُمْ أَخَذُوهَا بِوَصْفٍ آخَرَ.

(لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لقوله تعالى: "وفي سبيل الله" أَيْ: لِمُجَاهِدٍ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، أَوِ الْحَجِّ، وَاخْتَارَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

(أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا) أَيْ: عَلَى الصَّدَقَةِ، مِنْ نَحْوِ عَاشِرٍ، وَحَاسِبٍ، وَكَاتِبٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا"، وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَكُونَ هَاشِمِيًّا، قِيلَ: وَلَا مُطَّلِبِيًّا.

(أَوْ لِغَارِمٍ) أَيْ: مَدِينٍ، مِثْلَ مَنِ اسْتَدَانَ لِيُصْلحَ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ فِي دِيَةٍ، أَوْ دَيْنٍ تَسْكِينًا لِلْفِتْنَةِ، وَإِنْ كان غنيًّا، قال الله تعالى: "والغارمين" بِشُرُوطٍ فِي الْفُرُوعِ.

(أَوْ لِرَجُلٍ) غَنِيٍّ (اشْتَرَاهَا) أَيِ: الصَّدَقَةَ (بِمَالِهِ) مِنَ الْفَقِيرِ الَّذِي أَخَذَهَا (أَوْ لِرَجُلٍ) غَنِيٍّ (جَار مِسْكِينٌ) الْمُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْفَقِيرَ (فَأَهْدَاهَا) الصَّدَقَةَ (لِلْغَنِيِّ) فَتَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ قَدْ بَلَغَتْ مَحَلَّهَا فِيهِ...

قال ابن عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا الْحَدِيثُ مُفَسِّرٌ لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ"، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ، وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ لَا تَحِلُّ لِغَيْرِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورِينَ.

قَالَ الْبَاجِيُّ: فَإِنْ دَفَعَهَا لِغَنِيٍّ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ عَالِمًا بِغِنَاهُ؛ لَمْ تُجْزِهِ بِلَا خِلَافٍ. فَإِنِ اعْتَقد فقره، فقال ابن الْقَاسِمِ: يَضْمَنُ إِنْ دَفَعَهَا لِغَنِيٍّ، أَوْ كَافِرٍ.

وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْهَدِيَّةِ تَحِلُّ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ. ذَكَرَهُ الزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأ...

ثم نقل عن الخطابي كلامًا جاء فيه: وَأَمَّا الْغَارِمُ الْغَنِيُّ، فَهُوَ: الرَّجُلُ يَتَحَمَّلُ الْحَمَالَةَ، وَيدانُ فِي الْمَعْرُوفِ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَلَهُ مَالٌ إِنْ يَقَعْ فِيهَا افْتَقَرَ؛ فَيُعْطَى مِنَ الصَّدَقَةِ مَا يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ.

فَأَمَّا الْغَارِمُ الَّذِي يدانُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مُعْسِرٌ؛ فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْغَنِيّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْفُقَرَاءِ.

وَأَمَّا الْعَامِلُ، فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنها عُمَالَةً عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ وَأُجْرَةِ مِثْلِهِ، فَسَوَاءً كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُمَالَةَ إِذَا لَمْ يَفْعَلْهُ تَطَوُّعًا.

فَأَمَّا الْمُهْدَى لَهُ الصَّدَقَةُ، فَهُوَ إِذَا مَلَّكَهَا فَقَدْ خرجَتْ أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً، وَهِيَ مِلْكٌ لِمَالِكٍ تَامِّ الْمِلْكِ جَائِزُ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِه. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني