الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الفرق بين الحسد والعين وكيفية تأثيرهما على المعين والمحسود

السؤال

أريد أن أفهم ما المقصود بالحسد تفصيلا، وكيف يضر المحسود؟ فقد سمعت أن الحسد لا يضر غير الحاسد، ولم يرد ما يدل في الدين أنه يضر المحسود، إلا لو أصبح وسواسًا عنده. وأن الحسد هو تمني زوال ما في يد الغير، فالحاسد يتضرر بذلك نفسيا ودينيا، فهو يعترض على توزيع رزق الله لعباده، ولهذا السبب هو مأمور بقول (ما شاء الله تبارك الله) حتى لا يدخل في نفسه أن ما في يد غيره من صنيعه بغير رزق الله، أو حتى لا يعترض على رزق الله.
أما المحسود فهو لن يتضرر في كلتا الحالتين، أي أنه لن يتضرر عند عدم ذكر الحاسد "ما شاء الله".
فمن غير المنطقي وجود قوى أشعة فوق البنفسجية، أو تحت حمراء تؤذي المحسود، وإنما تقع الأذية من الحاسد للمحسود عن طريق فعل اليد والتدبير فقط.
وهذا ما حدث في قصة جار صاحب الجنتين (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالًا وولدًا).
وفي قصة سيدنا يعقوب (يا بني لا تدخلوا من بابٍ واحد وادخلوا من أبوابٍ متفرقة) حتى يحتموا من تدبير وأذى قطاع الطرق، فلا يطمعوا في الغنيمة من العدد الكبير.
ولا يوجد ما يدل في سورة الفلق عن كون الحسد قوى غير طبيعية، وإنما الأقرب عدم تأويلها، وفهم أننا نطلب وقاية الله ضد تدبير الحاسد (ما وقع بالجارحة والفتن وليس عين الحسد).
وعن قصة (العين فلقت الحجر) فهي ضعيفة، ولا توجد لها أسانيد قوية، أو لا يظهر معناها جليًا في كون الحسد هو سبب الضرر.
وعن الدليل العقلي، فهو عدم تأثر الغرب أو الأغنياء بالحسد، وإلا كنا نظمنا جيشًا من الحاسدين يحاربون ضد دبابات وطائرات الأعداء بقوة عيونهم الحسودة. فكل ثروات الأغنياء معروفة ومنشورة، ولا يضرهم بذلك شيء.
فكيف يقع هذا الابتلاء دونًا عن العالم للمسلمين المقتنعين بالحسد.
قد بحثت كثيرًا لحسن فهم هذا الموضوع، ولم أفهمه بوضوح، ولكني منذ ولدت وأنا أعتقد في الحسد، وأخشاه، وهكذا وجدت والدتي وعائلتي وكل الناس، وعندما فكرت في هذه المعاني أصبحت مضطربًا بهذه المعاني.
فأرجو منكم التأكيد أو النفي، وهو القول الفصل عندي. وجزاكم الله كل خير.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلعل السائل قد اختلط عليه موضوع الحسد بموضوع العين، وسوف نبين له المقصود بكل منهما، والعلاقة بينهما.

فالمقصود بالحسد -كما قال العلماء- هو: تمني الحاسد زوال نعمة المحسود، وإن لم يصل للحاسد منها شيء، ويقال لصاحبه: حاسد.

جاء في إحياء علوم الدين للإمام الغزالي -رحمه الله تعالى- عند تعريف الحسد قال: فالحسد حدُّه كَرَاهَةُ النِّعْمَةِ، وَحُبُّ زَوَالِهَا عَنِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ. انتهى.

وقال النووي -رحمه الله تعالى- في رياض الصالحين: الْحَسَدُ هُوَ تَمَّنِي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ صَاحِبِهَا، سواءٌ كَانَتْ نعمة دينٍ، أَوْ دنيا. انتهى.

وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: وَالْحَسَدَ تَمَنِّي زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنِ الْمَحْسُودِ. انتهى.

-أما العين: فهي قوة نفسية تؤثر في الأبدان، والنفوس، ويقال لصاحبها عائن، وكثيرًا ما كان الحسد سببًا لتسلط العائن على صاحب النعمة، فيضره بهذه القوة النفسية.

قال عنها ابن القيم في الطب النبوي: وَهِيَ سِهَامٌ تَخْرُجُ مِنْ نَفْسِ الْحَاسِدِ، وَالْعَائِنِ نَحْوَ الْمَحْسُودِ، وَالْمَعِينِ تُصِيبُهُ تَارَةً، وَتُخْطِئُهُ تَارَةً، فَإِنْ صَادَفَتْهُ مَكْشُوفًا لَا وِقَايَةَ عَلَيْهِ، أَثَّرَتْ فِيهِ. انتهى.

وقال أيضا: فَكُلُّ عَائِنٍ حَاسِدٌ، وَلَيْسَ كُلُّ حَاسِدٍ عَائِنًا، فَلَمَّا كَانَ الْحَاسِدُ أَعَمَّ مِنَ الْعَائِنِ كَانَتِ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْهُ اسْتِعَاذَةً مِنَ الْعَائِنِ. انتهى.

وبهذا تعلم أن الحسد غير العين، وأن الحاسد غير العائن، لكن بينهما علاقة، وهي كما قال ابن القيم في زاد المعاد: الحسد أصل الإصابة بالعين، وقال بعضهم: العين نظر باستحسان قد يشوبه شيء من الحسد، ويكون الناظر خبيث الطبع.... انتهى.

وأما كيف يضر الحاسد المحسود؟ فقد بينه ابن القيم في زاد المعاد فقال: فَإِنَّ النَّفْسَ الْخَبِيثَةَ الْحَاسِدَةَ تَتَكَيَّفُ بِكَيْفِيَّةٍ خَبِيثَةٍ، وَتُقَابِلُ الْمَحْسُودَ، فَتُؤَثِّرُ فِيهِ بِتِلْكَ الْخَاصِّيَّةِ، وَأَشْبَهُ الْأَشْيَاءِ بِهَذَا الْأَفْعَى، فَإِنَّ السُّمَّ كَامِنٌ فِيهَا بِالْقُوَّةِ، فَإِذَا قَابَلَتْ عَدُوَّهَا، انْبَعَثَتْ مِنْهَا قُوَّةٌ غَضَبِيَّةٌ، وَتَكَيَّفَتْ بِكَيْفِيَّةٍ خَبِيثَةٍ مُؤْذِيَةٍ، فَمِنْهَا مَا تَشْتَدُّ كَيْفِيَّتُهَا، وَتَقْوَى حَتَّى تُؤَثِّرَ فِيها. انتهى.

وأما بقية الإشكالات والاعتراضات في السؤال؛ فقد أجاب عنها ابن القيم، فننقل للسائل الكريم الجواب عنها من كتابه الطب النبوي حيث قال:

أَبْطَلَتْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ قَلَّ نَصِيبُهُمْ مِنَ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ أَمْرَ الْعَيْنِ، وقالوا: إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها، وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ، وَمِنْ أَغْلَظِهِمْ حِجَابًا، وَأَكْثَفِهِمْ طِبَاعًا، وَأَبْعَدِهِمْ مَعْرِفَةً عَنِ الْأَرْوَاحِ، وَالنُّفُوسِ، وَصِفَاتِهَا، وَأَفْعَالِهَا، وَتَأْثِيرَاتِهَا.. وَعُقَلَاءُ الْأُمَمِ عَلَى اخْتِلَافِ مِلَلِهِمْ، وَنِحَلِهِمْ لَا تَدْفَعُ أَمْرَ العين، ولا تنكره، وإن اختلفوا في سببه، وَجِهَةِ تَأْثِيرِ الْعَيْنِ... وَهَؤُلَاءِ قَدْ سَدُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَابَ الْعِلَلِ، وَالتَّأْثِيرَاتِ، وَالْأَسْبَابِ، وَخَالَفُوا الْعُقَلَاءَ أَجْمَعِينَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- خَلَقَ فِي الْأَجْسَامِ، وَالْأَرْوَاحِ قُوًى، وَطَبَائِعَ مُخْتَلِفَةً، وَجَعَلَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا، خَوَاصَّ، وَكَيْفِيَّاتٍ مُؤَثِّرَةً، وَلَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ إِنْكَارُ تأثير الأرواح في الْأَجْسَامِ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ، وَأَنْتَ تَرَى الْوَجْهَ كَيْفَ يَحْمَرُّ حُمْرَةً شَدِيدَةً، إِذَا نَظَرَ إليه من يحتشمه، ويستحي منه، وَيَصْفَرُّ صُفْرَةً شَدِيدَةً، عِنْدَ نَظَرِ مَنْ يَخَافُهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ شَاهَدَ النَّاسُ مَنْ يَسْقَمُ مِنَ النَّظَرِ، وَتَضْعُفُ قُوَاهُ، وَهَذَا كُلُّهُ بِوَاسِطَةِ تَأْثِيرِ الْأَرْوَاحِ، وَلِشِدَّةِ ارْتِبَاطِهَا بِالْعَيْنِ يُنْسَبُ الْفِعْلُ إِلَيْهَا، وَلَيْسَتْ هِيَ الْفَاعِلَةَ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ لِلرُّوحِ، وَالْأَرْوَاحُ مُخْتَلِفَةٌ فِي طَبَائِعِهَا، وَقُوَاهَا، وَكَيْفِيَّاتِهَا، وَخَوَاصِّهَا، فَرُوحُ الْحَاسِدِ مُؤْذِيَةٌ لِلْمَحْسُودِ أَذًى بَيِّنًا، وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- رَسُولَهُ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِهِ مِنْ شَرِّهِ، وَتَأْثِيرُ الْحَاسِدِ فِي أَذَى الْمَحْسُودِ، أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا مَنْ هُوَ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَهُوَ أَصْلُ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ،... وَمِنْهَا، مَا تُؤَثِّرُ فِي الْإِنْسَانِ كَيْفِيَّتُهَا بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ مِنْ غَيْرِ اتِّصَالٍ بِهِ، لِشِدَّةِ خُبْثِ تِلْكَ النَّفْسِ، وَكَيْفِيَّتِهَا الْخَبِيثَةِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَالتَّأْثِيرُ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى الِاتِّصَالَاتِ الْجِسْمِيَّةِ، كَمَا يَظنُّهُ مَنْ قَلَّ عِلْمُهُ، وَمَعْرِفَتُهُ بِالطَّبِيعَةِ وَالشَّرِيعَةِ. اهـ

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني