الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              جماع أبواب الصلح والعهود الجائزة بين أهل الإسلام وأهل الشرك سوى أهل الكتاب

                                                                                                                                                                              ذكر مصالحة الإمام أهل الشرك على أن يتركوا مالهم ، ولا يتعرضوا لأموالهم وذراريهم من غير مال يؤخذ منهم ولا جزية

                                                                                                                                                                              6274 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن معمر، قال: أخبرني الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، يصدق كل واحد منهما صاحبه، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه حتى إذا كانوا بذي الحليفة، قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي، وأشعره، وأحرم بالعمرة، وبعث بين يديه عينا له من خزاعة، يخبره عن قريش، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعي، فقال: إن كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابش - وقال غيره: الأحابيش ، وهو الصحيح - وجمعوا لك جموعا كثيرة، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أشيروا علي، أترون أن نميل إلى [ذراري] هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا تكن عنقا قطعها الله، أم ترون أن نؤم البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه"، فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم، يا نبي الله! إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين [ ص: 314 ] البيت قاتلناه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فروحوا إذا" قال معمر: قال الزهري : فكان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله .

                                                                                                                                                                              قال الزهري : في حديث المسور ومروان - : فراحوا - يعني - حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خالد بن الوليد بالغميم، في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين"، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش، ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء خلأت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت القصواء، وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل"، ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها"، (ثم) زجرها فوثبت به ، قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية، على ثمد قليل الماء، إنما يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبثه الناس أن نزحوه، (فشكى) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه ، فبينا هم كذلك، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي، في نفر من قومه من خزاعة، (وكان) عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ص: 315 ] "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم، فإن شاؤوا (هادنتهم) مدة، ويخلوا [بيني] وبين الناس، فإن أظهر، وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره" ، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشا، فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا: فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء، وقال: ذووا الرأي منهم: هات ما سمعته. يقول: قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عروة بن مسعود الثقفي: أي قوم ، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا [علي] ، جئتكم بأهلي، وولدي، ومن أطاعني. قالوا: بلى. قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته، قالوا: - ائته، فأتاه. قال: فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل. فقال عروة عند ذلك: أي محمد ، أرأيت إن استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك، وإن [تكن] الأخرى، فوالله إني لأرى وجوها، وأرى أشوابا من [ ص: 316 ] الناس خلقاء أن [يفروا] ويدعوك، فقال أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن نفر وندعه. فقال: من ذا؟ قال: أبو بكر، فقال: أما والذي نفسي بيده لولا يد لك عندي لم أجز بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف، وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب بيده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، وقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة. قال: أي [غدر] ، أولست أسعى في غدرتك - وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فغدرهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء" - ثم إن عروة جعل يرمق صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بعينه، قال: فوالله ما يتنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في يد رجل منهم، فيدلك بها وجهه وجلده، فإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا (تكلم) خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له. قال: فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر، وكسرى، والنجاشي، والله إن رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فيدلك بها وجهه وجلده، وإذا [ ص: 317 ] أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا (تكلم) خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد ، فاقبلوها منه. فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، قالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا فلان من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له "، فبعثت له ، واستقبله القوم يلبون، فلما رأى ذلك. قال: سبحان الله، ما ينبغي [لهؤلاء] أن يصدوا عن البيت. قال: فلما رجع إلى أصحابه. قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت، فقال رجل منهم - يقال له مكرز بن حفص - دعوني آته، قالوا: ائته، فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا مكرز" - وهو رجل فاجر - فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو .

                                                                                                                                                                              قال معمر: فأخبرني أيوب، عن عكرمة أنه لما جاء سهيل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سهل الله لكم من أمركم" .

                                                                                                                                                                              قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو - فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا، فدعى [الكاتب] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم "، فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي، [ولكن] اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم " . [ ص: 318 ]

                                                                                                                                                                              ثم قال: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله "، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسوله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله"، فقال الزهري : وذلك لقوله: "لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله، إلا أعطيتهم إياها" - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "[على] أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به " .

                                                                                                                                                                              فقال سهيل بن عمرو: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن لك من العام المقبل، فكتب. فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. فقال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما، فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو، يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة، حتى رمى نفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما نقاضيك عليه، أن ترده إلي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نقض الكتاب بعد". قال: فوالله إذا لا أصالحك على شيء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأجزه لي". قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: "بلى فافعل"، قال: ما أنا بفاعل، فقال مكرز: بلى قد أجزناه لك .

                                                                                                                                                                              فقال أبو جندل: أي معاشر المسلمين ، أأرد إلى المشركين وقد جئت مسلما؟، ألا ترون ما لقيت، وكان قد عذب عذابا شديدا في الله .

                                                                                                                                                                              فقال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ألست بنبي لله حقا؟ قال: "بلى"، قلت: [ ص: 319 ] ألست على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى "، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري"، قلت: أو ليس كنت وعدتنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: "بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ "، قلت: لا، قال: "فإنك آتيه ومطوف به" .

                                                                                                                                                                              قال: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر! أليس هذا نبي الله حقا؟، قال: بلى، قلت: أفلسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: أيها الرجل!، إنه رسول الله، وليس يعصي ربه، فهو ناصره، فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق. قلت: أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ [قال: فأخبرك أنه سيأتيه العام؟، قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به] - قال الزهري : قال عمر: فعملت لذلك أعمالا - .

                                                                                                                                                                              قال: فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا فانحروا، ثم احلقوا"، قال: فوالله ما قام منهم أحد حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج، ولم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما، ثم جاء نسوة مؤمنات، فأنزل الله: ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ) حتى بلغ: [ ص: 320 ] ( بعصم الكوافر ) ، فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية .

                                                                                                                                                                              ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش، وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا به ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك يا فلان جيدا، [فاستله] الآخر، فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به، ثم جربت. فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفر الآخر، حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: "لقد رأى هذا ذعرا" ، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قتل والله صاحبي، وإني لمقتول، فجاء أبو بصير، فقال: يا رسول الله! قد والله أوفى الله ذمتك، وقد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه، مسعر حرب، لو كان له أحد" .

                                                                                                                                                                              فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم، إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمع منهم عصابة، قال: فوالله ما يسمعون بعير لقريش إلى الشام، إلا اعترضوا لها، فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله والرحم، إلا أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل [ ص: 321 ] الله: ( وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ) ، حتى بلغ: ( حمية الجاهلية ) ، وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا بسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينه وبين البيت
                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                              6275 - حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن عكرمة بن عمار، قال: أخبرني أبو زميل، سماك الحنفي، أنه سمع ابن عباس، يقول: " كاتب الكتاب يوم الحديبية علي بن أبي طالب .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وقد تكلم بعض أهل العلم في معاني أحرف من هذا الحديث، من ذلك قوله: [الغميم] ، قال: هو ما بين عسفان وضجنان، وقوله: "قترة الجيش"، القترة هو: الغبار، يريد غبرة الجيش، وحكي عن أبي عبيدة أنه قال في قوله: " ( ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ) ، قال: القتر: الغبار .

                                                                                                                                                                              وقوله: "فألحت"، يريد لزمت مكانها، أو لم تبرح، يقال: ألح الجمل، وخلأت الناقة، وحرن الفرس، والثمد: الماء القليل، وجمعه ثماد، ويقال: ماء ثمود، إذا كثر عليه الناس حتى يفنى، ورجل مثمود، وقد ثمدته النساء، إذا نزفت ماءه لكثرة الجماع .

                                                                                                                                                                              وقوله: "يتبرضه الناس تبرضا"، أي يأخذونه قليلا قليلا، يقال: برضت له برضا، إذا أعطيته شيئا يسيرا . [ ص: 322 ]

                                                                                                                                                                              وقوله: "ما زال يجيش لهم بالري" أي يرتفع ماؤه. وقوله: "إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكان عيبة نصح رسول الله من أهل تهامة" ، قوله: "عيبة نصح رسول الله" - يعني - موضع سره، ومن يستنصح، ويؤتمن على أمره، ومنه قوله: "الأنصار كرشي وعيبتي". وقوله: "معهم العوذ المطافيل"، يريد النساء والصبيان، والعوذ جمع عائذ .

                                                                                                                                                                              وقوله: "فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو ينفذن الله أمره"، والسالفتان ناحيتا مقدم العنق من لدن معلق القرط إلى الترقوة، كأنه قال: لا أزال [أجاهد] حتى أنفذ لأمر الله وأبلغه، أو يفرق بين رأسي وجسمي .

                                                                                                                                                                              وقوله: "فوالله إني لأرى وجوها، وأرى أشوابا من الناس، خلقاء أن يفروا، ويدعوك"، قال: هم الأخلاط من الناس، وكذلك الأوباش .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وقد تضمن خبر المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم عدد أبواب من كتاب المناسك، والجهاد، وغير ذلك من الأحكام، والآداب، أحببت إثبات ما حضرني من ذلك بعقب حديثهما، فمن ذلك:

                                                                                                                                                                              أن نبي الله سن ذا الحليفة ميقاتا لمن أراد العمرة من أهل المدينة في سنة ست، وسن المواقيت بعد ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك قبل أن يحج: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن، وأهل اليمن من يلملم" . [ ص: 323 ]

                                                                                                                                                                              ومن ذلك: أن الأفضل والأعلى الإحرام من المواقيت، استدلالا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج يريد العمرة عام الحديبية ترك الإحرام من منزله، وأحرم من ذي الحليفة، وكذلك فعل في حجة الوداع، فدل على أن الإحرام من المواقيت أفضل من إحرام الرجل من دويرة أهله، ومن قبل المواقيت; لأن الإحرام قبل المواقيت محظور ، وقد فعله جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباع السنن أفضل، وليس معنى قوله: ( وأتموا الحج والعمرة ) ، أن يحرم الإنسان من دويرة أهله، لو كان ما قالوه معنى الآية، لكان أشد الناس له استعمالا من نزل عليه القرآن ، وفرض عليه البيان، ففي إحرام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الميقات، وتركه أن يحرم من منزله، دليل على أن تأويل الآية ليس كما تأوله أولئك .

                                                                                                                                                                              ويؤكد ذلك قوله: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة.." الحديث، يأمرهم قبل خروجهم أن يحرموا من مواقيتهم، وقد تأول) بعضهم قول من قال: من تمام العمرة أن تحرم من دويرة أهلك. أن المراد به: من بين المواقيت، وبين مكة، استدلالا بخبر ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن كان أهله دونهن فمهله من أهله"، وكذاك فكذاك حتى أهل مكة يهلون منها، فإن كان علي رضي الله عنه، أراد هذا المعنى، فهو صحيح [ ص: 324 ] موافق خبر ابن عباس، ولا أحسبه أراد غير ذلك; لأنه حاضر مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وهو كان كاتب الكتاب، وغير جائز أن يظن به غير ذلك، ومما يؤيد أنه لا يجوز أن يظن بعلي رضي الله عنه غير ذلك خبره الذي.

                                                                                                                                                                              6276 - حدثناه علي بن الحسن، حدثنا يعلى بن عبيد الطنافسي، وأبو نعيم قالا: حدثنا مسعر، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي عبد الرحمن - قال أبو نعيم: عن علي، وقال يعلى: قال علي - "إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فظنوا به الذي هو أهدى، والذي هو (أهيأ) ، والذي هو أتقى .

                                                                                                                                                                              فإذا كان علي رضي الله عنه يأمر فيما يحتمله التأويل أن يظن بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أهدى، فكيف يجوز أن يظن به أنه عدل عما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يسنه لأمته مرة بعد مرة وخالفه" .

                                                                                                                                                                              ومن ذلك: أنه سن إشعار البدن قبل حجة الوداع بأعوام، وفعل ذلك في حجة الوداع، وقد خالف فعل النبي صلى الله عليه وسلم من زعم أن الإشعار مثلة، محتجا بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، إنما كان عام خيبر، وإشعار البدن في حجة الوداع في سنة عشر، ولم يكن له غزاة بعد حجة الوداع.

                                                                                                                                                                              ومن ذلك: أن السنة أن يشعر المرء بدنته قبل الإحرام; لأن في حديثهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قلد الهدي، وأشعره، وأحرم بالعمرة، فأعلم أنه أحرم بالعمرة بعد الإشعار والتقليد، وإذا كان ذلك كذلك فقد [ ص: 325 ] أغفل من قال: إن من قلد فقد أحرم; لأن في الحديث أنه قلد الهدي، وأشعر، وأحرم، ففي ذلك دليل على أن إحرامه كان بعد التقليد، والإشعار، إذ غير جائز أن يقال لمن قد لزمه الإحرام بالتقليد: أحرم بعد ذكر التقليد; لأن الإحرام لا يدخل على إحرام قبله إلا حيث دلت السنة من إدخال الحج على العمرة .

                                                                                                                                                                              ومن ذلك: السنة في تقليد الهدي، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في سنة تسع في العام الذي حج فيه أبو بكر، ذكرت عائشة أنها فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قلدها رسول الله بيده، ثم لم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء كان أحله الله له، حتى نحر الهدي، وفعل ذلك في حجة الوداع، وكل ذلك يدل على أن (المرء) لا يكون بالتقليد محرما .

                                                                                                                                                                              ومن ذلك: تقديم الأئمة الطلائع، والعيون بين يدي الجيوش، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم كما بعث عام الحديبية بين يديه عينا له من خزاعة، يخبره عن قريش، قال: وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان، أتاه عينه الخزاعي، مع ما يجمع فاعل ذلك من الحزم والاحتياط والتحرز من عيون العدو وبغتاته، مع ما فيه من المبالغة في باب الاستعداد والتأهب للقاء العدو، وربما ظفرت الطليعة بالعلج يدل على غفلات العدو وعوراته، ويخبر عن قرب العدو وبعده، وموضع نزوله، وما يدبر من كيد الإمام وأهل الإسلام، فيحترز الإمام من مكائده، ويغتنم غفلاته، فربما ظفر بالحيلة، وربما نجا بالتيقظ .

                                                                                                                                                                              ومن ذلك ما دل على قبول خبر الواحد، وأن خبره حجة يلزم قبولها، [ ص: 326 ] إذا كان المخبر ثقة، ولا يجوز أن يبعث الإمام في ذلك غير ثقة; لأن طليعة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجلا واحدا، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعث من يخبره عن العدو بخبر، إلا من يقبل ذلك منه; لأن ذلك إن كان على غير ما قلناه، فلا معنى للبعثة به، ولا فائدة، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر بما لا معنى له .

                                                                                                                                                                              ومن ذلك: الرخصة في مسير الرجل وحده طليعة لجيش; لأن الخزاعي قد مضى وحده سائرا، بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ويشبه أن يكون معنى خبر ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس من الوحدة [ما أعلم] ، ما سار راكب بليل وحده أبدا"، في غير باب الضرورة، والحرب، والحاجة إليه، فإذا كانا اثنين، فغير مكروه لهما السير في شيء من الأحوال، يدل على ما قلناه خبر مالك بن الحويرث، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ولصاحب له: "إذا سافرتما فأذنا، وأقيما، وليؤمكما أكبركما"، فإن احتج محتج بخبر عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب" . [ ص: 327 ]

                                                                                                                                                                              فقد اختلف أهل العلم في القول بهذا الإسناد، وقد عارضه خبر مالك بن الحويرث، وإذا تعارضت الأخبار رجعت الأمور إلى أنها على الإباحة، حتى نعلم حظرا، يعني خبرا يعارضه .

                                                                                                                                                                              ومن ذلك: الرخصة في هجوم الواحد على الجماعة الكثيرة العدد من العدو، استدلالا بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عينه الخزاعي، عينا وحده إلى عدد كثير، وفي معنى ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم عام الأحزاب: "من يأتيني بخبر القوم ؟ فقال الزبير: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكل نبي حواري، وحواري الزبير" ، وقد ذكرت إسناده فيما مضى .

                                                                                                                                                                              ومنها: السنة في مشاورة الإمام أصحابه فيما يشكل عليه من أمر عدوهم، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قال حين جاءه عينه الخزاعي، يخبره عن قريش وجمعهم له، وعزمهم على قتاله، وصده عن البيت الحرام: "أشيروا علي"، وقد فعل هذا قبل ذلك ببدر، استشار من [ ص: 328 ] استشار من أصحابه في أمر الأسارى، فأشار عليه أبو بكر، وعمر ما أشارا به، وقد ذكرت هذه القصة فيما مضى، وكل ذلك اتباعا لأمر الله، وليتأدب به الأئمة، قال الله - جل ذكره - : ( وشاورهم في الأمر ) .

                                                                                                                                                                              كان الحسن البصري يقول في هذه الآية: قد علم الله أنه ليس به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستن به بعده .

                                                                                                                                                                              وقال الحسن البصري : ما شاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم .

                                                                                                                                                                              وقال الضحاك: ما أمر الله بالمشورة إلا لما علم بما فيها من البركة، وكان سفيان يقول: بلغني أنها نصف العقل، وقد ذكرت الأخبار في هذا في غير هذا الموضع، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مع نزول الوحي عليه مما يدرك به [عين] الصواب، قد أمر بذلك، فمن ليس في معناه من الأئمة بعده أولى أن لا يستبد أحدهم برأي دون أصحابه; لأن الصواب ربما أجراه الله على لسان من دون الإمام في العلم والرأي، يقال: إن عمر بن الخطاب كان يشاور حتى المرأة .

                                                                                                                                                                              وجملة الأمر أن المشورة لا تؤدي إلا إلى خير، وعلى أن المخطئ بعد أن يشاور أصحابه أعذر عندهم من المستبد برأيه دونهم، ويدل على أن الصواب يجب قبوله ممن أشار به، وإن كانت امرأة; لأن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، لما فرغ من قضية الكتاب، قال لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا" ، فلما لم يقم أحد، دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، قالت أم سلمة: يا نبي الله ، أتحب ذلك؟ ، اخرج ، ثم لا تكلم أحدا منهم حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج، وفعل ذلك . [ ص: 329 ]

                                                                                                                                                                              فإن قال قائل: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يفلح قوم تملكهم امرأة "، فذلك على معنى الإمرة; لأن بعض الملوك لما توفي ولوا أمرهم امرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم تملكهم امرأة " على معنى الإمرة لا على معنى المشورة .

                                                                                                                                                                              6277 - حدثنا يحيى بن محمد، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: حدثنا ( هشيم ) ، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، ولن يهلك امرؤ بعد مشورة" .

                                                                                                                                                                              ومن ذلك الدليل على إباحة سبي ذراري المشركين، قبل قتل الرجال إذا خرج قوم من المشركين عونا لقوم آخرين من المشركين، ذلك بين في قوله: " أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم أم ترون أن نؤم البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه"، لما كان سبي ذراري القوم، وترك ذلك مباحا .

                                                                                                                                                                              ومن ذلك إباحة قتال المحرم من صده عن البيت، وعن قضاء المناسك، موجود ذلك في قوله: "أم ترون أن نؤم البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه" . [ ص: 330 ]

                                                                                                                                                                              وقوله: "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها" ، يحتمل معنيين: أحدهما: يريد إن شاء الله، فأضمر ذلك واختصر الكلام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يقول إنه فاعل فعلا فيما يستقبل إلا على ما أمر الله به، قال الله: ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ) .

                                                                                                                                                                              أو يقول قائل: إن الله لما أعلمهم أنه معطيهم كل خطة دعت إليه قريش يعظمون بها حرمات الله، ترك الاستثناء لعلمه بأنه فاعل ذلك لا محالة، لما أعلمه الله ذلك، والمعنى الأول أحب إلي مع أن رجوعه بعدما صالحهم وتركه قتالهم في الحرم من تعظيم حرمات الله، استدلالا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عليه مكة: "إن الله حبس الفيل عن مكة، وسلط عليها رسول الله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه" .

                                                                                                                                                                              وقد يجوز أن يكون معنى ذلك أي لا تبدؤوا فيها بقتال، لا أن محاربة من حاربهم لا يجوز، استدلالا بقوله - جل ثناؤه - : ( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ) ، وهذا موافق لقوله: "أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه"، فتكونوا مقاتلين إذا بدئوا بالقتال، لا مبتدئين قتالا في الحرم . [ ص: 331 ]

                                                                                                                                                                              ومن ذلك: انتزاعه السهم من كنانته، لما شكوا إليه العطش، وأمره إياهم أن يجعلوه في الماء، وذلك أحد علامات النبوة التي أعطاه الله ليتحقق عند من حضر ذلك أمره، وأنه نبي مرسل، وليزدادوا من أمره، وصدقه بذلك بصيرة .

                                                                                                                                                                              ومن ذلك: الإباحة لإمام المسلمين مهادنة المشركين إلى مدة معلومة، على غير مال يأخذه منهم، إذا كان ذلك على النظر للمسلمين، فإن الله قد فرض قتال المشركين من أهل الأوثان حتى يسلموا، وقتال أهل الكتاب حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية، وإنما فرض ذلك على من أطاق قتالهم، دون من له مهادنتهم ممن يعجز عن قتالهم، إلى مدة معلومة يرجو أن يقوى إلى تلك المدة، إذ من تخلف عن القتال للعذر غير آثم، ولا حرج، وقد وادع النبي صلى الله عليه وسلم عند قدومه المدينة ناسا على غير مال أخذه، وفعل ذلك عام الحديبية; لأنه رأى أن أحوط للمسلمين مهادنة عدوهم إلى مدة يقوون بانقضائها عليهم، فهادنهم عشر سنين، كما ذكر ابن إسحاق، يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، ويقال: نزلت هذه الآية مرجعه من الحديبية: ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) .

                                                                                                                                                                              6278 - حدثنا علي بن عبد العزيز، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، عن قتادة، عن أنس، أن هذه الآية، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مخالطو الحزن والكآبة، وقد حيل بينهم وبين مناسكهم، ونحروا الهدي بالحديبية، فقال قتادة، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نزلت علي آية أحب إلي من الدنيا جميعا"، قال: فلما [ ص: 332 ] تلاها نبي الله عليهم، فقال رجل من القوم: هنيئا مريا لك يا رسول الله، قد بين الله لك ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله بعدها: ( ليدخل المؤمنين والمؤمنات ) إلى قوله: " ( وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ) .

                                                                                                                                                                              6279 - حدثنا موسى، حدثنا يحيى، حدثنا وكيع، عن أبي جعفر الرازي، عن قتادة، عن أنس ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) ، قال: خيبر.

                                                                                                                                                                              وقال الشعبي: نزلت يوم الحديبية، فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبايعوا بيعة الرضوان، وأطعموا نخيل خيبر، وظهرت الروم على فارس، وفرح المؤمنون بتصديق كتاب الله ، وظهور أهل الكتاب على المجوس .

                                                                                                                                                                              وقد اختلف أصحابنا في المعنى الذي له صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية .

                                                                                                                                                                              فقالت طائفة: إنما صالح قريشا على جهة النظر لأهل الإسلام من وجوه شتى لكثرة عدد المشركين، وعزمهم على منعه، ومن معه من الدخول عليهم، وطلبا للتفرغ لقتال غيرهم، وأمنا لمن أراد الدخول في الإسلام، وليتقوى لحربهم فيما يستقبل، وإنما يجوز للإمام مهادنة العدو على النظر لأهل الإسلام إلى مدة معلومة، لا يجوز مهادنتهم إلى غير مدة; لأن ذلك يوجب الكف عنهم على الأبد، ولا يجوز [ ص: 333 ] ذلك; لأن قتالهم متى قدر عليه يجب إذا كانوا أهل أوثان حتى يسلموا، وقتال الذين أوتوا الكتاب يجب حتى يسلموا، أو يؤدوا الجزية، وإذا هادنهم على غير مدة، كان ذلك عقدا خلاف ظاهر كتاب الله، وذلك مردود; لأن الله أمر بقتال المشركين، ولا يجوز أن (يعقد) عقدا خلاف أمر الله .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صالحهم وهو غير عاجز عن قتالهم، ألا تراه أخبر أن قريشا قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم، ولم يصالحهم على وضع الحرب بينهم هذه المدة; لأنهم أقوى منه، وأكثر عددا وعدة منه، بل طمعا أن يسلموا أو بعضهم .

                                                                                                                                                                              وفي مهادنة الإمام أهل الشرك مدة أطول من مدة الحديبية قولان: أحدهما: أن ذلك لا يجوز أن يهادن قوما أكثر من عشر سنين; لأن ذلك أقصى ما يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه هادن قوما، وذلك أن الله فرض قتال المشركين، فلما هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي أهل مكة، كانت تلك المدة مع العذر الموجود أقصى مدة، يجوز للإمام أن يهادن إلى مثلها على الصلاح لأهل الإسلام، وبه أقول .

                                                                                                                                                                              والقول الثاني: إن ذلك للإمام ، يصالح على قدر ما يرى فيه الصلاح لأهل الإسلام .

                                                                                                                                                                              ومتى أبحنا للإمام أن يصالح قوما على ما ذكرناه، فانقضت المدة التي صالحهم عليها، واحتاج الإمام إلى أن يجدد بينه وبينهم صلحا إلى مدة ثانية، فله أن يفعل ذلك إلى أن يقوى أهل الإسلام، لأن العلة التي لها صالحهم في المرة الأولى، قائمة حين صالحهم المرة الثانية، ولا فرق بينهما لحاجة أهل الإسلام إلى ذلك . [ ص: 334 ]

                                                                                                                                                                              ومن ذلك: أن للإمام إذا رأى مصالحة عدو ومهادنتهم، أن يبدأ هو، فيعرض ذلك; لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ فقال لبديل بن ورقاء: "إن قريشا قد نهكتهم الحرب، فإن شاؤوا هادنتهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس، فعلوا وإلا فقد جمعوا، وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا [حتى] تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره" .

                                                                                                                                                                              ومن ذلك: أن معاقدة بعض وجوه المشركين الإمام عن أصحابه جائز; لأن الذي عقد الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين أهل مكة، إنما عقده سهيل بن عمرو وحده، ولعل ذلك عن رأي أصحابه .

                                                                                                                                                                              ومن ذلك: إباحة الوقوف على رأس الإمام في حال الحرب، عند مجيء رسول العدو بالسيوف، ترهيبا للعدو، وحراسة للإمام ، أن ينال بمكروه، وهذا في حال الضرورة، استدلالا بقيام المغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله، فرفع عروة يده.

                                                                                                                                                                              فدل ذلك على أن الفرق بين هذه الحال وبين الحال التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يمثل [له] الرجال قياما، فليتبوأ مقعده من النار"، وذلك إذا لم تكن ضرورة . [ ص: 335 ]

                                                                                                                                                                              من ذلك: أن أموال أهل الشرك، وإن كانت مباحة للمسلمين، مغنومة إذا أخذوا ذلك منهم قهرا، فإنها ممنوعة بالأمان لهم عليها، مردودة إلى أربابها، [إذا] أخذوا ذلك في حال الأمان لهم، يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة: "أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء" ، وإنما حرم ذلك على المغيرة; لأنهم لما صحبوه، وقد أمن كل منهم صاحبه، على نفسه وماله، فكان سفكه دماءهم، وأخذه أموالهم في ذلك الوقت غدرا منه بهم، والغدر غير جائز، والأمانات مؤداة إلى الأبرار، والفجار، والمؤمنين، والمشركين .

                                                                                                                                                                              ومن ذلك: الدليل على طهارة النخامة; لأن فيما ذكره عروة بن مسعود لأصحابه، من فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قوله: فوالله (لا) يتنخم رسول الله نخامة إلا وقعت في يد رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وهذا يلزم النخعي حيث قال: إن البزاق إذا وقع في الماء أهراق الماء، وقد ذكرنا الأخبار الدالة على طهارة البزاق في كتاب الصلاة .

                                                                                                                                                                              ومن ذلك: استحباب الفأل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكر عكرمة : "قد سهل لكم من أمركم "، لما أقبل سهيل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الفأل .

                                                                                                                                                                              6280 - حدثنا إسماعيل بن قتيبة، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، [ ص: 336 ] حدثنا ( يزيد) ، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى، ولا طيرة، وأحب الفأل الصالح" .

                                                                                                                                                                              ومن ذلك: أن للإمام أن يقر فيما يصالح عليه - من رأى صلحه صلاحا - بعض ما فيه الضيم والضعف، فيما يشترطه العدو على أهل الإسلام في صلحهم، إذا كان يرجو فيما يستقبل عاقبة نفع ذلك، بعد أن لا يكون فيما يعطيهم لله معصية، فمما أعطاهم من ذلك في ذلك اليوم، تركه كتاب بسم الله الرحمن الرحيم، وكتب باسمك اللهم، وكتاب ذكر محمد مكان ذكر رسول الله، والانصراف عنهم عامه على غير تمام العمرة، ورده من جاء منهم مسلما إليهم، وقد ضاق بذلك بعض من حضره من المسلمين واضطربوا منه، و (عجوا) إذ لم تحتمل عقولهم، وأن لهم ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مما كان محمودا في العاقبة، غير الصديق رضوان الله عليه، فإنه ممن خص بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعرفة صواب ذلك وفهمه، وقد قال عمر بن الخطاب : اتهموا الرأي على الدين .

                                                                                                                                                                              6281 - حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا يونس بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا مبارك بن فضالة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، قال: " اتهموا الرأي على الدين، فلقد [ ص: 337 ] [رأيتني] أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي اجتهادا، والله ما آلو عن الحق، وذلك يوم أبي جندل في الكتاب بين رسول الله وأهل مكة، فقال: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم"، فقالوا: إذا صدقناك بما تقول، ولكن نكتب كما كنت تكتب، باسمك اللهم، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبيت عليهم حتى قال لي: "يا عمر أتراني رضيت وتأبى أنت؟" ، قال: فرضيت .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمهم بالله، وأشدهم له خشية، ولأمره تعظيما، ولدينه إعزازا، ولم يجب إلى ذلك إلا بعد أن رأى أن ذلك أحوط لأهل الإسلام، ولعل فعله ذلك كان عن أمر ربه، بل لا شك فيه، لقوله لعمر: "إني رسول الله، ولست أعصيه"، وليس في شيء من ذلك لله معصية، وذلك أن المعنى في قوله: "باسمك اللهم"، كالمعنى في قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم"; لأن كل ذلك مخاطبة لله وحده لا شريك له، ليس منه شيء مضاف إلى غيره، وكذلك قوله: "هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله"، مع ترك ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يغير معنى النبوة، ونسبته إلى أبيه صدقا وحقا، وليس في رد من رد منهم فيما شرطوه في الكتاب، أكثر من تخوف الفتنة على من رد إليهم منهم، وقد وضع الله الحرج عن من فتن منهم عن دينه، فأعطى بلسانه مكرها خلاف ما يعقد عليه قلبه، فأما معطيا بلسانه على الإكراه ما لا يضره، أو صابرا على المكروه حتى يقتل شهيدا، على أنهم إنما كانوا يردون إما إلى أب، أو إلى أخ، أو ذي رحم يؤمن عليه منهم مكروه; لأن أولئك الذين ذكرناهم من أهاليهم أشفق عليهم من أن [ ص: 338 ] يسلموه للمكروه، وقد أمضى الله لنبيه ما فعل من ذلك، وسماه فتحا مبينا .

                                                                                                                                                                              قال الزهري : انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهه ذلك - يعني غزوة الحديبية - قافلا، حتى إذا كان بين مكة والمدينة، نزلت سورة الفتح: ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) .

                                                                                                                                                                              6282 - حدثناه علي بن عبد العزيز: قال حدثنا أحمد بن محمد، قال: حدثنا إبراهيم، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وقد تبين صلاح ذلك; لأن أبا جندل صار من أمره بعد ذلك حين جيء بأبي بصير، واجتمعت العصابة التي اجتمعت، وصار من أمرهم أن قريشا أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله والرحم إلا أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأما من اشتد عليه ذلك من أصحاب رسول الله، ووجدوا من ذلك، فلم يريدوا إلا عز الدين، وكرهوا دخول الضعف والوهن على الإسلام، مع أن الأعلى من ذلك والأفضل، تسليم من سلم منهم، لما سلم له رسول الله من ذلك، ورضي به، وقد تبين فضل أبي بكر في ذلك على عمر، قال عمر: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ألست بنبي الله حقا؟ قال: "بلى!"، قال: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى!"، قلت: فلم نعط الدنية في ديننا إذا؟ قال: "إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري". قلت: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: "أفأخبرتك (أنا) نأتيه العام؟"، قال: لا، قال: "فإنك آتيه ومطوف به"، قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقا؟، قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، [ ص: 339 ] قلت: فلم نعط الدنية في ديننا؟، قال: أيها الرجل، إنه رسول الله، (ليس) يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق، قلت: أو ليس كان عدتنا أنا سنأتي البيت ونطوف به، قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قال: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، قال الزهري : قال عمر: فعملت لذلك أعمالا .

                                                                                                                                                                              ففي جواب أبي بكر بمثل ما أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم، دليل على أن أبا بكر كان أعلم الناس بأحكام الله، وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم، ودينه بعد نبي الله صلى الله عليه وسلم، وفي قوله: "إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري" دليل على أنه أجاب إلى ما أجاب به بأمر الله .

                                                                                                                                                                              ويدل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإنك آتيه ومطوف به"، بعدما قد تقدم من الكلام، على أن من حلف ليفعلن فعلا لم يجعل لذلك وقتا، أن وقت ذلك جميع حياته .

                                                                                                                                                                              وقد اختلف فيما يجب عليه إذا لم يفعل ذلك حتى مات إذا كانت اليمين بطلاق أو عتق، وقد بينته في غير هذا الموضع .

                                                                                                                                                                              وفي إجابة أبي بكر بمثل ما أجاب به النبي عليه السلام بيان فضل أبي بكر على عمر .

                                                                                                                                                                              وقول من قال من أهل العلم، فيمن حلف بطلاق امرأته ليفعلن فعلا، له أجل المولي، خلاف ظاهر هذا الحديث .

                                                                                                                                                                              ومن ذلك: دليل على صحة كتاب الكاتب، هذا ما اشترى فلان بن فلان من فلان بن فلان، وعلى إغفال من أنكر ذلك، وزعم أن "هذا [ ص: 340 ] ما" نفي، وليس بإثبات، كأنه رأى أن كاتب: هذا ما اشترى، ينفى بقوله أن يكون اشترى شيئا يجعله في موضع جحد، والدليل على إغفال هذا القائل بين من الكتاب والسنة، فأما الكتاب فقوله: ( هذا ما كنزتم لأنفسكم ) ، وليس ذلك جحد لما أعاد من ذكر الكنز، وأول الكلام وآخره يدل على أن معنى: ( هذا ما كنزتم لأنفسكم ) ، هذا الذي كنزتم لأنفسكم، ليس على معنى الجحد، ويدل على ذلك قوله: "هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله"، ومن هذا المعنى قوله: ( هذا ما توعدون ليوم الحساب ) .

                                                                                                                                                                              ومن ذلك: أن المحرم بحج أو بعمرة، إذا أحصر بعدو، يحل من إحرامه، وينحر هديه حيث أحصر; لأن النبي صلى الله عليه وسلم حل، ونحر، وأمر أصحابه بذلك بالحديبية في المكان الذي أحصروا فيه، في الحل على ساعة من الحرم، وقد اختلفوا في وجوب القضاء على من فعل ذلك، وقد بينت ذلك في كتاب المناسك .

                                                                                                                                                                              ومن ذلك ذكر النسوة المؤمنات، قال: ثم جاءه نسوة مؤمنات، فأنزل الله: ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ) حتى بلغ: ( بعصم الكوافر ) ، فطلق عمر امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية .

                                                                                                                                                                              وقد اختلف أهل العلم: في الزوجين من غير أهل الكتاب يسلم أحدهما وقد دخل بها، وقد بينت اختلافهم فيه في كتاب الطلاق، [ ص: 341 ] فكرهت إعادة ذلك هاهنا .

                                                                                                                                                                              ومن ذلك: قتل أبي بصير أحد الرجلين اللذين دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إليهما ليرداه إلى مكة، ففي علم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وتركه أن يحكم عليه في ذلك بشيء، وإن كان المقتول ممن دخل في جملة من وقع الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم، دليل على أن للإمام أن يقف عن الحكم على القاتل في مثل هذا وشبهه، إذا لم يحضر أولياء القتيل، اقتداءا برسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                              وقد اختلف الناس في دخول النساء في العقد، الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أهل مكة، فقال قوم: لم ينعقد الصلح بينهم قط إلا على رد الرجال; لأن في حديث المسور، ومروان، وعلي: أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته علينا، فاحتج بهذه اللفظة من قال: إن الصلح لم يكن بينهم يومئذ إلا على رد الرجال .

                                                                                                                                                                              وقال غيرهم: انعقد الصلح بينهم على رد الرجال والنساء; لأن في خبر عقيل عن الزهري، "وعلى أنه لا يأتيك منا أحد، وإن كان على دينك إلا رددته علينا"، قالوا: فدخل في قوله: "أحد الرجال والنساء، قالوا: ثم أنزل الله: ( إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ) ، فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية أن يردهن إليهم .

                                                                                                                                                                              وقال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أعطاهم فيما كان بينه وبينهم أن يرد إليهم الرجال منهم والنساء، فأبطل الله الشرط في النساء، وذكر: أن في ذلك دليلا على أن الإمام إذا أعطى شرطا خلاف كتاب الله، أنه لا يجوز، [ ص: 342 ] ويبطل، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط " .

                                                                                                                                                                              وأكثر أصحابنا يميلون إلا أن الكتاب لم ينعقد إلا على رد الرجال وحدهم .

                                                                                                                                                                              وفي قوله: " وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته علينا"، دليل على أن من جاء منهم إلى غير بلد الإمام الذي عقد الصلح بينه وبينهم; أن ليس على الإمام رده إليهم، استدلالا بأن أبا بصير خرج إلى سيف البحر، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم، إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، قال: فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام، إلا اعترضوا لها، فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله، والرحم إلا أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم.. ، وفي ذلك دليل على أن من جاء إلى غير بلد الإمام، أن ليس على الإمام رده .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية