قوله تعالى : ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم وهو الوقوع في الجوع والخوف ، كما ذكره في هذه الآية . أنه تعالى لما هدد الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة هددهم أيضا بآفات الدنيا
المسألة الثانية : المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة ، سواء كان ذلك الشيء موجودا أو لم يكن موجودا . وقد يضرب بشيء موجود معين ، فهذه القرية التي ضرب الله بها هذا المثل يحتمل أن تكون شيئا مفروضا ، ويحتمل أن تكون قرية معينة ، وعلى هذا التقدير الثاني : فتلك القرية يحتمل أن تكون مكة أو غيرها ، والأكثرون من المفسرين على أنها مكة ، والأقرب أنها غير مكة ؛ لأنها ضربت مثلا لمكة ، ومثل مكة يكون غير مكة .
المسألة الثالثة : ذكر الله تعالى لهذه القرية صفات :
الصفة الأولى : كونها آمنة ، أي : ذات أمن لا يغار عليهم كما قال : ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) [العنكبوت : 67] . والأمر في مكة كان كذلك ؛ لأن العرب كان يغير بعضهم على بعض . أما أهل مكة ، فإنهم كانوا أهل حرم الله ، والعرب كانوا يحترمونهم ويخصونهم بالتعظيم والتكريم .
واعلم أنه يجوز وصف القرية بالأمن ، وإن كان ذلك لأهلها لأجل أنها مكان الأمن وظرف له ، والظروف من الأزمنة ، والأمكنة توصف بما حلها ، كما يقال : طيب وحار وبارد .
والصفة الثانية : قوله ( مطمئنة ) ، قال الواحدي : معناه أنها قارة ساكنة ، فأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق . أقول : إن كان المراد من كونها مطمئنة - أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الخوف ، فهذا هو معنى كونها آمنة ، وإن كان المراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الضيق ، فهذا هو معنى قوله : ( يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ) . وعلى كلا التقديرين فإنه يلزم التكرار .
[ ص: 103 ] والجواب : أن العقلاء قالوا :
ثلاثة ليس لها نهاية الأمن والصحة والكفاية
قوله : ( آمنة ) إشارة إلى الأمن ، وقوله : ( مطمئنة ) إشارة إلى الصحة ؛ لأن هواء ذلك البلد لما كان ملائما لأمزجتهم اطمأنوا إليه واستقروا فيه ، وقوله : ( يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ) إشارة إلى الكفاية . قال المفسرون : وقوله : ( من كل مكان ) السبب فيه إجابة دعوة إبراهيم - عليه السلام - وهو قوله : ( فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات ) [إبراهيم : 37] . ثم إنه تعالى لما وصف القرية بهذه الصفات الثلاثة قال : ( فكفرت بأنعم الله ) . الأنعم : جمع نعمة ، مثل أشد وشدة ؛ أقول ههنا سؤال : وهو أن الأنعم جمع قلة ، فكان المعنى : أن أهل تلك القرية كفرت بأنواع قليلة من النعم فعذبها الله ، وكان اللائق أن يقال : إنهم كفروا بنعم عظيمة لله فاستوجبوا العذاب ، فما السبب في ذكر جمع القلة ؟
والجواب : المقصود التنبيه بالأدنى على الأعلى يعني : أن القليلة لما أوجب العذاب فكفران النعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب ، وهذا مثل كفران النعم أهل مكة ؛ لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ، ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فكفروا به وبالغوا في إيذائه ، فلا جرم سلط الله عليهم البلاء . قال المفسرون : عذبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام والعلهز والقد ، أما الخوف فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم . ونقل أن ابن الراوندي قال الأديب : هل يذاق اللباس ؟ قال لابن الأعرابي : لا باس ولا لباس يا أيها النسناس ، هب أنك تشك أن ابن الأعرابي محمدا ما كان نبيا أما كان عربيا ؟ وكان مقصود ابن الراوندي الطعن في هذه الآية ، وهو أن اللباس لا يذاق ، بل يلبس ، فكان الواجب أن يقال : فكساهم الله لباس الجوع ، أو يقال : فأذاقهم الله طعم الجوع . وأقول جوابه من وجوه :
الوجه الأول : أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان :
أحدهما : أن المذوق هو الطعام ، فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع .
والثاني : أن ذلك الجوع كان شديدا كاملا فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهات ، فأشبه اللباس . فالحاصل أنه حصل في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق ، وحالة تشبه الملبوس ؛ فاعتبر الله تعالى كلا الاعتبارين ، فقال : ( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ) .
والوجه الثاني : أن التقدير أن الله عرفها لباس الجوع والخوف إلا أنه تعالى عبر عن التعريف بلفظ الإذاقة ، وأصل الذوق بالفم ، ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرف ، وهو الاختبار ، تقول : ناظر فلانا وذق ما عنده . قال الشاعر :
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها
ولباس الجوع والخوف هو ما ظهر عليهم من الضمور وشحوب اللون ، ونهكة البدن ، وتغير الحال ، وكسوف البال ، فكما تقول : تعرفت سوء أثر الخوف والجوع على فلان ، كذلك يجوز أن تقول : ذقت لباس الجوع والخوف على فلان .
والوجه الثالث : أن يحمل لفظ اللبس على المماسة ، فصار التقدير : فأذاقها الله مساس الجوع والخوف .
[ ص: 104 ] ثم قال تعالى : ( بما كانوا يصنعون ) قال : يريد : بفعلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم حين كذبوه ، وأخرجوه من ابن عباس مكة وهموا بقتله . قال الفراء : ولم يقل بما صنعت ، ومثله في القرآن كثير ، ومنه قوله تعالى : ( فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ) [الأعراف : 4] . ولم يقل قائلة ، وتحقيق الكلام أنه تعالى وصف القرية بأنها مطمئنة يأتيها رزقها رغدا فكفرت بأنعم الله ، فكل هذه الصفات ، وإن أجريت بحسب اللفظ على القرية ، إلا أن المراد في الحقيقة أهلها ؛ فلا جرم قال في آخر الآية : ( بما كانوا يصنعون ) ، والله أعلم .