المسألة الثالثة : احتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال ، فقالوا : قوله : ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) يقتضي أن تكون الهداية في الموضعين بمعنى واحد ؛ لأنه لو كان المراد من [ ص: 4 ] الهداية في قوله : ( إنك لا تهدي ) شيئا ، وفي قوله : ( ولكن الله يهدي من يشاء ) شيئا آخر لاختل النظم ، ثم إما أن يكون المراد من الهداية بيان الدلالة ، أو الدعوة إلى الجنة ، أو تعريف طريق الجنة ، أو خلق المعرفة في القلوب على سبيل الإلجاء ، أو خلق المعرفة في القلوب لا على سبيل الإلجاء ، لا جائز أن يكون المراد بيان الأدلة ؛ لأنه عليه السلام هدى الكل بهذا المعنى فهي غير الهداية التي نفى الله عمومها ، وكذا القول في الهداية بمعنى الدعوة إلى الجنة ، وأما الهداية بمعنى تعريف طريق الجنة فهي أيضا غير مرادة من الآية ؛ لأنه تعالى علق هذه الهداية على المشيئة ، وتعريف طريق الجنة غير معلق على المشيئة ؛ لأنه واجب على الله تعالى ، والواجب لا يكون معلقا على المشيئة ، فمن وجب عليه أداء عشرة دنانير ، لا يجوز أن يقول إني أعطي عشرة دنانير إن شئت ، وأما الهداية بمعنى الإلجاء والقسر فغير جائز ؛ لأن ذلك عندهم قبيح من الله تعالى في حق المكلف ، وفعل القبيح مستلزم للجهل أو الحاجة ، وهما محالان ومستلزم المحال محال ، فذلك محال من الله تعالى ، والمحال لا يجوز تعليقه في المشيئة ، ولما بطلت الأقسام لم يبق إلا أن المراد ، ولا يسأل عما يفعل ، ومتى أوردت الكلام على هذا الوجه سقط كل ما أورده القاضي عذرا عن ذلك . أنه تعالى يخص البعض بخلق الهداية والمعرفة ويمنع البعض منها
أما قوله : ( وهو أعلم بالمهتدين ) فالمعنى أنه فيعلم من يهتدي بعد ومن لا يهتدي ، ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر شبههم، وأجاب عنها بالأجوبة الواضحة ، وبين أن وضوح الدلائل لا يكفي ما لم ينضم إليه هداية الله تعالى ، حكى عنهم شبهة أخرى متعلقة بأحوال الدنيا، وهي قولهم : ( المختص بعلم الغيب إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ) قال : الخطف : الانتزاع بسرعة ، روي أن المبرد الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنا لنعلم أن الذي تقوله حق ، ولكن يمنعنا من ذلك تخطفنا من أرضنا ، أي يجتمعون على محاربتنا ويخرجوننا من أرضنا ، فأجاب الله سبحانه وتعالى عنها من وجوه .
الأول : قوله : ( أولم نمكن لهم حرما آمنا ) أي : أعطيناكم مسكنا لا خوف لكم فيه ؛ إما لأن العرب كانوا يحترمون الحرم ، وما كانوا يتعرضون ألبتة لسكانه ، فإنه يروى أن العرب خارج الحرم كانوا مشتغلين بالنهب والغارة ، وما كانوا يتعرضون ألبتة لسكان الحرم ، أو لقوله تعالى : ( ومن دخله كان آمنا ) (آل عمران : 97 ) أما قوله : ( يجبى إليه ثمرات كل شيء ) فهو تعالى كما بين كون ذلك الموضع خاليا عن المخاوف والآفات بين كثرة النعم فيه ، ومعنى : ( يجبى ) يجمع من قولهم : جبيت الماء في الحوض إذا جمعته ، قرأ أهل المدينة تجبى بالتاء ، وأهل الكوفة ، وأبو عمرو بالياء ، وذلك أن تأنيث الثمرات تأنيث جمع وليس بتأنيث حقيقي ، فيجوز تأنيثه على اللفظ وتذكيره على المعنى ، ومعنى الكلية الكثرة ؛ كقوله : ( وأوتيت من كل شيء ) (النمل : 23 ) .
وحاصل الجواب : أنه تعالى لما الحرم آمنا ، وأكثر فيه الرزق حال كونهم معرضين عن عبادة الله تعالى مقبلين على عبادة الأوثان ، فلو آمنوا لكان بقاء هذه الحالة أولى ، قال القاضي : ولو أن الرسول قال لهم : إن الذي ذكرتم من التخطف لو كان حقا لم يكن عذرا لكم في أن لا تؤمنوا، وقد ظهرت الحجة لانقطعوا ، أو قال لهم : إن تخطفهم لكم بالقتل وغيره ، وقد آمنتم كالشهادة لكم ، فهو نفع عائد عليكم لانقطعوا أيضا ، ولو قال لهم : ما قدر مضرة التخطف في جنب العقاب الدائم الذي أخوفكم منه إن بقيتم على كفركم لانقطعوا ، لكنه تعالى احتج بما هو أقوى من حيث بين كذبهم في أنهم يتخطفون من حيث عرفوا من حال البقعة بالعادة ، أن ذلك لا يجري إن آمنوا ، ومثل ذلك إذا أمكن بيانه للخصم فهو أولى من سائر ما ذكرنا ، فلذلك قدمه الله تعالى [ ص: 5 ] والآية دالة على صحة الحجاج الذي يتوصل به إلى إزالة شبهة المبطلين . بقي ههنا بحثان : جعل
الأول : قال صاحب "الكشاف" في انتصاب ( رزقا ) إن جعلته مصدرا جاز أن ينتصب بمعنى ما قبله ؛ لأن معنى ( يجبى إليه ثمرات كل شيء ) ، و (يرزق ثمرات كل شيء) واحد ، وأن يكون مفعولا له ، وإن جعلته بمعنى مرزوق كان حالا من الثمرات لتخصيصها بالإضافة ، كما ينتصب على النكرة المتخصصة بالصفة .
الثاني : احتج الأصحاب بقوله : ( رزقا من لدنا ) في أن ، وبيانه أن تلك الأرزاق إنما كانت تصل إليهم ؛ لأن الناس كانوا يحملونها إليهم ، فلو لم يكن فعل العبد خلقا لله تعالى لما صحت تلك الإضافة ، فإن قيل سبب تلك الإضافة أنه تعالى هو الذي ألقى تلك الدواعي في قلوب من ذهب بتلك الأرزاق إليهم ، قلنا تلك الدواعي إن اقتضت الرجحان ، فقد بينا في غير موضع أنه متى حصل الرجحان ، فقد حصل الوجوب، وحينئذ يحصل المقصود ، وإن لم يحصل الرجحان انقطعت الإضافة بالكلية . فعل العبد خلق الله تعالى
واعلم أنه تعالى إنما بين أن تلك الأرزاق ما وصلت إليهم إلا من الله تعالى ؛ لأجل أنهم متى علموا ذلك صاروا بحيث لا يخافون أحدا سوى الله تعالى ، ولا يرجون أحدا غير الله تعالى ، فيبقى نظرهم منقطعا عن الخلق متعلقا بالخالق ، وذلك يوجب كمال الإيمان ، . والإعراض بالكلية عن غير الله تعالى والإقبال بالكلية على طاعة الله تعالى