النوع الثاني: تكامل علمي:
بين علم أصول الفقه وعلم أصول التاريخ مواثيق دقيقة تعود لاعتبارات علمية بالأساس، فالاجتهاد الفقهي الذي يضع الواقع الإنساني بكل تجلياته الاجتماعية والعمرانية ضمن اعتباراته في إصدار الأحكام الشرعية، لا بد له من تطوير نفسه حتى يستجيب لتلك المستجدات الطارئة والتحولات التاريخية المتجددة، مما يستوجب معه ضرورة استصحابا موازيا لتطور الآلية المنهجية والمسالك العلمية الأصولية في ذلك الاجتهاد والتجديد الفقهي. [ ص: 27 ]
ولا يمكن للدارس معرفة هـذه القضـايا الكلية في تطوير الفقه وأصوله إلا عـبر إجراء عمـليات تاريخية تؤرخ بدقة لتطور العمران الفقهي والأصولي، وهذا ما يشكل مدخلا أساسا لذلك التكامل المعرفي بين أصول الفقه وأصول التاريخ.
كما لا يمكن الاشتغال في النظر الأصولي على بعض مسائله التاريخية دون استدعاء الرؤية التاريخية والتبين التاريخي، ومن أمثلة ذلك توجه بعض المذاهب الأصولية إلى إعمال دليل "شرع من قبلنا" واعتباره شرعا للأمة، وفي ذلك إشارة لاستدعاء السنن التاريخية التي قد خلت، بداية من قراءة تاريخ الأنبياء والاشتغال بالتثبت من الأحداث وقوانين التحري للعمران البشري السابق، وانتهاء بأسس وقواعد دعوتهم.
بالإضافة إلى ذلك، نلمس خصوصية التكامل الدقيق بين العلمين في استمداد علم أصول الفقه من قضايا التاريخ ومسائله لتأسيس النظر في عدد من الأدلة المرتبطة بالترتيب التاريخي، حتى يفهم على أحسن الوجوه وتشتغل على الفقه في تصويب الاجتهاد، ومن ذلك على وجه التحديد مسـألة النسخ في القرآن الكريـم، من حيث الناسخ والمنسوخ، ومعرفة أسبـاب نزوله بقصصه ورواياته وحـكاياته التاريخية، ونفس الشيء ما يتعلق بالسنة النبوية، حديثا وتقريرا وفعلا، وذلك من حيث أسباب الورود وما يرتبط به.
فلا يمكن للأصـولي أن تنتظم له مسائل الأصول على صورة القطع واليقـين، ومن بعـده للفقيه على صفـة الصواب في الاجتهاد أو الخطأ، إذا [ ص: 28 ] لم يضبطها بضوابط التاريخ وقواعد الروايات، وذلك ما قامت به كتب الروايات والسيرة والتاريخ.
ويمكن لنا تسجيل هذا الإمداد العلمي وكذا الاستمداد المعرفي من خلال تصانيف العلمين، فسيرة ابن هشام على سبيل التمثيل لا يمكن للأصولي أن يتجاهلها أو يهملها في درسه الأصولي وتحديدا في الأبواب الأصولية المخصوصة بالترتيب التاريخي والمعنية بأسباب النـزول وورود النصوص الشرعية حتى تكتمل لديه الرؤية في النظر.
ولعل الإطلاع على كتاب "المقدمة" يتيح فرصة التعرف على أوجه عديدة لذلك التداخل العلمي والتكامل المعرفي، حيث يرصد ابن خلدون ذلك التطور الزمني والترتيب المرحلي لعلم أصول الفقه والمذاهب الأصولية، التي شكلت مكوناته، منذ نشأتها إلى حيث تطورها وازدهارها، وهذا الأمر نفسه الذي نلمسه حين مدارستنا للتصانيف الأصولية بداية من "رسالة" الشافعي، التي فصل فيها الحديث عن الناسخ والمنسوخ إلى "موافقات" الشاطبي التي نجد فيها حضور الأسس التاريخية في بناء العمران الأصولي. [ ص: 29 ]