الله يتوفى الأنفس أي يقبضها عن الأبدان بأن يقطع تعلقها تعلق التصرف فيها عنها حين موتها أي في وقت موتها والتي لم تمت أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها متعلق - بيتوفى - أي يتوفاها في وقت نومها على أن مناما اسم زمان ، وجوز فيه كونه مصدرا ميميا بأن يقطع سبحانه تعلقها بالأبدان تعلق التصرف فيها عنها أيضا فتوفي الأنفس حين الموت وتوفيها في وقت النوم بمعنى قبضها عن الأبدان وقطع تعلقها بها تعلق التصرف إلا أن توفيها حين الموت قطع لتعلقها بها تعلق التصرف ظاهرا أو باطنا وتوفيها في وقت النوم قطع لذلك ظاهرا فقط ، وكأن التوفي الذي يكون عند الموت لكونه شيئا واحدا في أول زمان الموت وبعد مضي أيام منه قيل : حين موتها والتوفي الذي يكون في وقت النوم لكونه يتفاوت في أول وقت النوم وبعد مضي زمان منه قوة وضعفا قيل : في منامها أي في وقت نومها كذا قيل فتدبره ولمسلك الذهن السليم اتساع ، وإسناد الموت والنوم إلى الأنفس قيل : مجاز عقلي لأنهما حالا أبدانها لا حالاها ، وزعم الطبرسي أن الكلام على حذف مضاف أعني الأبدان ، وجعل الأنفس عبارة عن الجملة دون ما يقابل الأبدان ، وحمل توفيها على إماتتها وسلب صحة أجزائها بالكلية فلا تبقى حية حساسة دراكة حتى كأن ذاتها قد سلبت ، وحيث لم يتحقق هذا المعنى في التوفي حين النوم لأنه ليس إلا سلب كمال الصحة وما يترتب عليه من الحركات الاختيارية وغيرها قال في قوله تعالى : الزمخشري والتي لم تمت في منامها أي يتوفاها حين تنام تشبيها للنائمين بالموتى ، ومنه قوله تعالى : وهو الذي يتوفاكم بالليل [الأنعام : 60] حيث لا تميزون ولا تتصرفون كما أن الموتى كذلك ، وما يتخايل فيه من الجمع بين الحقيقة والمجاز يدفع بالتأمل وتقديم الاسم الجليل وبناء ( يتوفى ) عليه للحصر أو للتقوى أو لهما ، واعتبار الحصر أوفق بالمقام من اعتبار التقوى وحده أي الله يتوفى الأنفس حقيقة لا غيره عز وجل فيمسك التي أي الأنفس التي قضى في الأزل عليها الموت ولا يردها إلى أبدانها بل يبقيها على ما كانت عليه وينضم إلى ذلك قطع تعلق التصرف باطنا ، وعبر عن ذلك بالإمساك ليناسب التوفي .
[ ص: 8 ] وقرأ حمزة والكسائي وعيسى وطلحة والأعمش وابن وثاب «قضي » على البناء للمفعول ورفع «الموت » ويرسل الأخرى أي الأنفس الأخرى وهي النائمة إلى أبدانها فتكون كما كانت حال اليقظة متعلقة بها تعلق التصرف ظاهرا وباطنا ، وعبر بالإرسال رعاية للتقابل إلى أجل مسمى هو الوقت المضروب للموت حقيقة وهو غاية لجنس الإرسال الواقع بعد الإمساك لا لفرد منه فإنه آني لا امتداد له فلا يغيا ، واعتبر بعضهم كون الغاية للجنس لئلا يرد لزوم أن لا يقع نوم بعد اليقظة الأولى أصلا وهو حسن ، وقيل : ( يرسل ) مضمن معنى الحفظ والمراد يرسل الأخرى حافظا إياها عن الموت الحقيقي إلى أجل مسمى ، وروي عن أن في ابن ابن عباس آدم نفسا وروحا بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس هي التي بها العقل والتمييز والروح هي التي بها النفس والتحرك فيتوفيان عند الموت وتتوفى النفس وحدها عند النوم ، وهو قول بالفرق بين النفس والروح ، ونسبه بعضهم إلى الأكثرين ويعبر عن النفس بالنفس الناطقة وبالروح الأمرية وبالروح الإلهية ، وعن الروح بالروح الحيوانية وكذا بالنفس الحيوانية ، والثانية كالعرش للأولى ، قال بعض الحكماء المتألهين إن القلب الصنوبري فيه بخار لطيف هو عرش للروح الحيوانية وحافظ لها وآلة يتوقف عليها آثارها ، والروح الحيوانية عرش ومرآة للروح الإلهية التي هي النفس الناطقة وواسطة بينها وبين البدن بها يصل حكم تدبير النفس إليه ، وإلى عدم التغاير ذهب جماعة ، وهو قول وأحد قولين ابن جبير ، وما روي عنه أولا في الآية يوافق ما ذكرناه من حيث ( إن ) النفس عليه ليست بمعنى الجملة كما قال لابن عباس وادعى أن الصحيح ما ذكره دون هذا المروي بدليل موتها ومنامها ، والضمير للأنفس وما أريد منها غير متصف بالموت والنوم وإنما الجملة هي التي تتصف بهما . الزمخشري
وقال في الكشف ولأن الفرق بين النفسين رأي يدفعه البرهان ، وإيقاع الاستيفاء أيضا لا بد له من تأويل أيضا فلا ينبغي أن يعدل عن المشهور الملائم يعني حمل التوفي على الأمانة فإن أصله أخذ الشيء من المستوفى منه وافيا كملا وسلبه منه بالكلية ثم نقل عن ذلك إلى الإماتة لما أنه موجود فيها حتى صارت المتبادرة إلى الفهم منه ، وفيه دغدغة ، والذي يشهد له كثير من الآثار الصحيحة أن المتوفى في الأنفس التي تقابل الأبدان دون الجملة .
أخرج الشيخان في صحيحيهما عن قال : «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبي هريرة . وأخرج إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم ليقل اللهم باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين من عبادك » أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي عن وابن أبي شيبة أبي قتادة وأخرج أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لهم ليلة الوادي : «إن الله تعالى قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء » عن ابن مردويه قال : أنس بن مالك «كنت مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في سفر فقال : من يكلؤنا الليلة ؟ فقلت : أنا فنام ونام الناس ونمت فلم نستيقظ إلا بحر الشمس فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام : أيها الناس إن هذه الأرواح عارية في أجساد العباد فيقبضها الله إذا شاء ويرسلها إذا شاء » .
وأخرج ابن أبي حاتم عن وابن مردويه سليم بن عامر أن قال : العجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال فتكون رؤياه كأخذ باليد ويرى الرجل الرؤيا فلا تكون رؤياه شيئا فقال عمر بن الخطاب كرم تعالى وجهه : أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين ؟ يقول الله تعالى : علي الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى فالله تعالى يتوفى الأنفس [ ص: 9 ] كلها فما رأت وهي عنده سبحانه في السماء فهي الرؤيا الصادقة وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها فهي الكاذبة لأنها إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها فعجب من قوله رضي الله تعالى عنهما ، وظاهر هذا الأثر أن النفس النائمة المقبوضة تكون في السماء حتى ترسل ، ومثل ذلك مما يجب تأويله على القول بتجرد النفس ولا يجب على القول الآخر . نعم لعلك تختاره وكأنك تقول : إن النفس شريفة علوية هبطت من المحل الأرفع وأرسلت من حمى ممنع وشغلت بتدبير منزلها في نهارها وليلها ولم تزل تنتظر فرصة العود إلى ذياك الحمى والمحل الرفيع الأسمى وعند النوم تنتهز تلك الفرصة وتهون عليها في الجملة هاتيك الغصة فيحصل لها نوع توجه إلى عالم النور ومعلم السرور الخالي من الشرور بحيث تستعد استعدادا ما لقبول بعض آثاره والاستضاءة بشيء من أنواره وجعلها كذلك هو قبضها وبه لعمري بسطها وقبضها ، فمتى رأت وهي راجعة في تلك الحال مستفيضة من ذلك العالم الموصوف بالكمال رؤيا كانت صادقة ومتى رأت وهي القهقرى إلى ما ابتليت به من تدبير منزل تحوم فيه شياطين الأوهام وتزدحم فيه أي ازدحام كانت رؤياها كاذبة ثم إنها في كلا الحالين متفاوتة الإفراد فيما يكون من الاستعداد ، والوقوف على حقيقة الحال لا يتم إلا بالكشف دون القيل والقال عمر إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون الإشارة إلى ما ذكر من التوفي والإمساك والإرسال ، والإفراد لتأويله بالمذكور أو نحوه ، وصيغة البعيد باعتبار مبدئه أو تقضي ذكره أو بعد منزلته ، والتنوين في ( آيات ) للتكثير والتعظيم أي أن فيما ذكر الآيات كثيرة عظيمة دالة على كمال قدرته تعالى وحكمته وشمول رحمته سبحانه لقوم يتفكرون في كيفية تعلق الأنفس بالأبدان وتوفيها عنها تارة بالكلية عند الموت وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها إلى أن يعيد الله تعالى الخلق وما يعتريها من السعادة والشقاوة وأخرى عن ظواهرها فقط كما عند النوم وإرسالها حينا بعد حين إلى انقضاء آجالها .