ولما لغطت ألسنة بشأن وتحدثوا عن الفارسية والعربية، بحكم إيحاءات القومية الضيقة، ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضربته الحاسمة في هذا الأمر فقال: سلمان الفارسي، منا أهل البيت" "سلمان فتجاوز به - بقيم السماء وميزانها - كل آفاق النسب الذي يستعزون به، وكل حدود القومية الضيقة التي يتحمسون لها.. وجعله من أهل البيت رأسا!
ولما وقع بين أبي ذر الغفاري رضي الله عنهما - ما أفلت معه لسان وبلال بن رباح - بكلمة " يا بن السوداء " .. غضب لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبا شديدا وألقاها في وجه أبي ذر عنيفة مخيفة: [ ص: 3828 ] "يا أبي ذر طف الصاع ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل". أبا ذر ففرق في الأمر إلى جذوره البعيدة.. إما إسلام فهي قيم السماء وموازين السماء. وإما جاهلية فهي قيم الأرض وموازين الأرض!
ووصلت الكلمة النبوية بحرارتها إلى قلب أبي ذر الحساس; فانفعل لها أشد الانفعال، ووضع جبهته على الأرض يقسم ألا يرفعها حتى يطأها بلال. تكفيرا عن قولته الكبيرة!
وكان الميزان الذي ارتفع به بلال هو ميزان السماء.. عن رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبي هريرة - حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام منفعة عندك. فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة". فقال: ما عملت في الإسلام عملا أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورا تاما في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي . بلال "يا
وقد استأذن عليه: "ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيب" عمار بن ياسر .. وقال عنه: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عن رضي الله عنه - إيمانا إلى مشاشه".. عمار - وعن "ملئ رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : حذيفة - أبي بكر رضي الله عنهما - واهتدوا بهدي وعمر وما حدثكم عمار. فصدقوه". ابن مسعود "إني لا أدري ما بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي - وأشار إلى
وكان يحسبه الغريب عن ابن مسعود المدينة من أهل بيت رسول الله.. عن رضي الله عنه - قال: قدمت أنا وأخي من أبي موسى - اليمن، فمكثنا حينا وما نرى وأمه إلا من أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كثرة دخولهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولزومهم له. ابن مسعود
وجليبيب - وهو رجل من الموالي - كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب له بنفسه ليزوجه امرأة من الأنصار. فلما تأبى أبواها قالت هي: أتريدون أن تردوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه. فرضيا وزوجاها .
وقد افتقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الوقعة التي استشهد فيها بعد فترة قصيرة من زواجه.. عن رضي الله عنه - قال: أبي برزة الأسلمي - جليبيبا" فطلبوه، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه. فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقف عليه، ثم قال: "قتل سبعة ثم قتلوه. هذا مني وأنا منه. هذا مني وأنا منه". ثم وضعه على ساعديه، ليس له سرير إلا ساعدا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فحفر له، ووضع في قبره ولم يذكر غسلا. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مغزى له، فأفاء الله عليه. فقال لأصحابه: "هل تفقدون من أحد؟" قالوا: نعم فلانا وفلانا وفلانا. ثم قال: "هل تفقدون من أحد؟" قالوا: نعم. فلانا وفلانا وفلانا. ثم قال: "هل تفقدون من أحد؟" فقالوا: لا. قال: "لكني أفقد
[ ص: 3829 ] بذلك التوجيه الإلهي وبهذا الهدي النبوي كان الميلاد للبشرية على هذا النحو الفريد. ونشأ المجتمع الرباني الذي يتلقى قيمه وموازينه من السماء، طليقا من قيود الأرض، بينما هو يعيش على الأرض.. وكانت هذه هي المعجزة الكبرى للإسلام. المعجزة التي لا تتحقق إلا بإرادة إله، وبعمل رسول. والتي تدل بذاتها على أن هذا الدين من عند الله، وأن الذي جاء به للناس رسول!
وكان من تدبير الله لهذا الأمر أن يليه بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحبه الأول وصاحبه الثاني أبو بكر، أقرب اثنين لإدراك طبيعة هذا الأمر، وأشد اثنين انطباعا بهدي رسول الله، وأعمق اثنين حبا لرسول الله، وحرصا على تتبع مواضع حبه ومواقع خطاه. عمر..
حفظ رضي الله عنه - عن صاحبه - صلى الله عليه وسلم - ما أراده في أمر أبو بكر - فكان أول عمل له بعد توليه الخلافة هو إنفاذه بعث أسامة. على رأس الجيش الذي أعده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسار يودعه بنفسه إلى ظاهر أسامة، المدينة. راكب أسامة الخليفة راجل. فيستحيي وأبو بكر الفتى الحدث أن يركب والخليفة الشيخ يمشي. فيقول: " يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن " .. فيقسم الخليفة: "والله لا تنزل. ووالله لا أركب. وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة؟".. أسامة
ثم يرى أنه في حاجة إلى أبو بكر وقد حمل عبء الخلافة الثقيل. ولكن عمر. إنما هو جندي في جيش عمر أسامة. هو الأمير. فلا بد من استئذانه فيه. فإذا الخليفة يقول: "إن رأيت أن تعينني وأسامة بعمر فافعل".. يا لله! إن رأيت أن تعينني فافعل.. إنها آفاق عوال، لا يرقى إليها الناس إلا بإرادة الله، على يدي رسول من عند الله!
ثم تمضي عجلة الزمن فنرى خليفة يولي عمر بن الخطاب على عمار بن ياسر الكوفة.
ويقف بباب عمر سهيل بن عمرو بن الحارث بن هشام، وجماعة من كبراء وأبو سفيان بن حرب، قريش من الطلقاء! فيأذن قبلهم لصهيب لأنهما كانا من السابقين إلى الإسلام ومن أهل وبلال. بدر. فتورم أنف ويقول بانفعال الجاهلية: "لم أر كاليوم قط. يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه!".. فيقول له صاحبه - وقد استقرت في حسه حقيقة الإسلام - : "أيها القوم. إني والله أرى الذي في وجوهكم. إن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم. دعي القوم إلى الإسلام ودعيتم. فأسرعوا وأبطأتم. فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم؟". أبي سفيان،
ويفرض عمر أكبر مما يفرض لأسامة بن زيد لعبد الله بن عمر. حتى إذا سأله عبد الله عن سر ذلك قال له: "يا بني. كان رضي الله عنه - أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبيك! وكان زيد - رضي الله عنه - أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك! فآثرت حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حبي".. يقولها أسامة - وهو يعلم أن حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كان مقوما بميزان السماء! عمر
ويرسل عمر ليحاسب عمارا القائد المظفر صاحب النسب العريق - فيلببه بردائه.. ويروى أنه أوثقه بشال عمامته حتى ينتهي من حسابه فتظهر براءته فيفك وثاقه ويعممه بيده.. خالد بن الوليد - لا يرى في هذا [ ص: 3830 ] كله بأسا. فإنما هو وخالد صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السابق إلى الإسلام الذي قال عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال! عمار
هو الذي يقول عن وعمر رضي الله عنهما - هو سيدنا وأعتق سيدنا. يعني أبي بكر - بلالا. الذي كان مملوكا لأمية بن خلف. وكان يعذبه عذابا شديدا. حتى اشتراه منه وأعتقه.. وعنه يقول أبو بكر عن عمر بن الخطاب.. سيدنا! بلال..
هو الذي قال: "ولو كان وعمر حيا لاستخلفته" يقول هذا، وهو لم يستخلف سالم مولى أبي حذيفة ولا عثمان ولا عليا، ولا طلحة إنما جعل الشورى في الستة بعده ولم يستخلف أحدا بذاته! الزبير..
كرم الله وجهه - يرسل وعلي بن أبي طالب - عمارا رضي الله عنهما - إلى أهل والحسن بن علي - الكوفة يستنفرهم في الأمر الذي كان بينه وبين رضي الله عنها - فيقول: "إني لأعلم أنها زوجة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو تتبعوها".. فيسمع له الناس في شأن عائشة - أم المؤمنين، وبنت عائشة رضي الله عنهم جميعا. الصديق أبي بكر -
يرجوه أخوه في الإسلام وبلال بن رباح أبو رويحة الخثعمي أن يتوسط له في الزواج من قوم من أهل اليمن. فيقول لهم: "أنا وهذا أخي بلال بن رباح، أبو رويحة، وهو امرؤ سوء في الخلق والدين. فإن شئتم أن تزوجوه فزوجوه، وإن شئتم أن تدعوا فدعوا".. فلا يدلس عليهم، ولا يخفي من أمر أخيه شيئا، ولا يذكر أنه وسيط وينسى أنه مسؤول أمام الله فيما يقول.. فيطمئن القوم إلى هذا الصدق.. ويزوجون أخاه، وحسبهم - وهو العربي ذو النسب - أن يكون المولى الحبشي وسيطه! بلال
واستقرت تلك الحقيقة الكبيرة في المجتمع الإسلامي، وظلت مستقرة بعد ذلك آمادا طويلة على الرغم من عوامل الانتكاس الكثيرة. "وقد كان يذكر ويذكر معه مولاه عبد الله بن عباس وكان عكرمة. يذكر ويذكر معه مولاه عبد الله ابن عمر نافع. ومعه مولاه وأنس بن مالك ابن سيرين. ومعه مولاه وأبو هريرة وفي عبد الرحمن بن هرمز. البصرة كان وفي الحسن البصري. مكة كان مجاهد بن جبر، وعطاء بن رباح، هم الفقهاء. وفي وطاووس بن كيسان مصر تولى الفتيا في أيام يزيد بن أبي حبيب وهو مولى أسود من دنقلة".. عمر بن عبد العزيز
وظل ميزان السماء يرجح بأهل التقوى ولو تجردوا من قيم الأرض كلها.. في اعتبار أنفسهم وفي اعتبار الناس من حولهم. ولم يرفع هذا الميزان من الأرض إلا قريبا جدا بعد أن طغت الجاهلية طغيانا شاملا في أنحاء الأرض جميعا. وأصبح الرجل يقوم برصيده من الدولارات في أمريكا زعيمة الدول الغربية. وأصبح الإنسان كله لا يساوي الآلة في المذهب المادي المسيطر في روسيا زعيمة الدول الشرقية. أما أرض المسلمين فقد سادت فيها الجاهلية الأولى، التي جاء الإسلام ليرفعها من وهدتها; وانطلقت فيها نعرات كان الإسلام قد قضى عليها. وحطمت ذلك الميزان الإلهي وارتدت إلى قيم جاهلية زهيدة لا تمت بصلة إلى الإيمان والتقوى..
ولم يعد هنالك إلا أمل يناط بالدعوة الإسلامية أن تنقذ البشرية كلها مرة أخرى من الجاهلية; وأن يتحقق [ ص: 3831 ] على يديها ميلاد جديد للإنسان كالميلاد الذي شهدته أول مرة، والذي جاء ذلك الحادث الذي حكاه مطلع هذه السورة ليعلنه في تلك الآيات القليلة الحاسمة العظيمة..
وبعد تقرير تلك الحقيقة الكبيرة في ثنايا التعقيب على ذلك الحادث، في المقطع الأول من السورة، يعجب السياق في المقطع الثاني من أمر هذا الإنسان، الذي يعرض عن الهدى، ويستغني عن الإيمان، ويستعلي على الدعوة إلى ربه.. يعجب من أمره وكفره، وهو لا يذكر مصدر وجوده، وأصل نشأته، ولا يرى عناية الله به وهيمنته كذلك على كل مرحلة من مراحل نشأته في الأولى والآخرة; ولا يؤدي ما عليه لخالقه وكافله ومحاسبه: