الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وعندما يتم استعراض الصور الثلاث يرتد السياق في السورة نداء للناس كافة، وأمرا للبشرية جمعاء، أن تختار الصورة الكريمة المستقيمة. الصورة النقية الخالصة. الصورة العاملة النافعة. الصورة المهتدية المفلحة..

                                                                                                                                                                                                                                      صورة المتقين:

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون. الذي جعل لكم الأرض فراشا، والسماء بناء، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم، فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه النداء إلى الناس كلهم لعبادة ربهم الذي خلقهم والذين من قبلهم. ربهم الذي تفرد بالخلق، فوجب أن يتفرد بالعبادة.. وللعبادة هدف لعلهم ينتهون إليه ويحققوه: [ ص: 47 ] لعلكم تتقون .. لعلكم تصيرون إلى تلك الصورة المختارة من صور البشرية. صورة العابدين لله. المتقين لله . الذين أدوا حق الربوبية الخالقة، فعبدوا الخالق وحده رب الحاضرين والغابرين، وخالق الناس أجمعين، ورازقهم كذلك من الأرض والسماء بلا ند ولا شريك:

                                                                                                                                                                                                                                      الذي جعل لكم الأرض فراشا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهو تعبير يشي باليسر في حياة البشر على هذه الأرض، وفي إعدادها لهم لتكون لهم سكنا مريحا وملجأ واقيا كالفراش..

                                                                                                                                                                                                                                      والناس ينسون هذا الفراش الذي مهده الله لهم لطول ما ألفوه. ينسون هذا التوافق الذي جعله الله في الأرض ليمهد لهم وسائل العيش ، وما سخره لهم فيها من وسائل الراحة والمتاع.

                                                                                                                                                                                                                                      ولولا هذا التوافق ما قامت حياتهم على هذا الكوكب في مثل هذا اليسر والطمأنينة. ولو فقد عنصر واحد من عناصر الحياة في هذا الكوكب ما قام هؤلاء الأناسي في غير البيئة التي تكفل لهم الحياة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولو نقص عنصر واحد من عناصر الهواء عن قدره المرسوم لشق على الناس أن يلتقطوا أنفاسهم حتى لو قدرت لهم الحياة! والسماء بناء ..

                                                                                                                                                                                                                                      فيها متانة البناء وتنسيق البناء. والسماء ذات علاقة وثيقة بحياة الناس في الأرض، وبسهولة هذه الحياة.

                                                                                                                                                                                                                                      وهي بحرارتها وضوئها وجاذبية أجرامها وتناسقها وسائر النسب بين الأرض وبينها، تمهد لقيام الحياة على الأرض وتعين عليها.

                                                                                                                                                                                                                                      فلا عجب أن تذكر في معرض تذكير الناس بقدرة الخالق، وفضل الرازق، واستحقاق المعبود للعبادة من العبيد المخاليق.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنزل من السماء ماء، فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به، ما يفتأ يتردد في مواضع شتى من القرآن في معرض التذكير بقدرة الله، والتذكير بنعمته كذلك .. والماء النازل من السماء هو مادة الحياة الرئيسية للأحياء في الأرض جميعا. فمنه تنشأ الحياة بكل أشكالها ودرجاتها وجعلنا من الماء كل شيء حي .. سواء أنبت الزرع مباشرة حين يختلط بالأرض، أو كون الأنهار والبحيرات العذبة، أو انساح في طبقات الأرض فتألفت منه المياه الجوفية، التي تتفجر عيونا أو تحفر آبارا، أو تجذب بالآلات إلى السطح مرة أخرى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقصة الماء في الأرض، ودوره في حياة الناس، وتوقف الحياة عليه في كل صورها وأشكالها.. كل هذا أمر لا يقبل المماحكة، فتكفي الإشارة إليه، والتذكير به، في معرض الدعوة إلى عبادة الخالق الرازق الوهاب.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي ذلك النداء تبرز كليتان من كليات التصور الإسلامي: وحدة الخالق لكل الخلائق: الذي خلقكم والذين من قبلكم .. ووحدة الكون وتناسق وحداته وصداقته للحياة وللإنسان: الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء. وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم .. فهذا الكون أرضه مفروشة لهذا الإنسان، وسماؤه مبنية بنظام، معينة بالماء الذي تخرج به الثمرات رزقا للناس.. والفضل في هذا كله للخالق الواحد:

                                                                                                                                                                                                                                      فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      تعلمون أنه خلقكم والذين من قبلكم. وتعلمون أنه جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء. وأنه لم يكن له شريك يساعد، ولا ند يعارض. فالشرك به بعد هذا العلم تصرف لا يليق! [ ص: 48 ] والأنداد التي يشدد القرآن في النهي عنها لتخلص عقيدة التوحيد نقية واضحة، قد لا تكون آلهة تعبد مع الله على النحو الساذج الذي كان يزاوله المشركون . فقد تكون الأنداد في صور أخرى خفية. قد تكون في تعليق الرجاء بغير الله في أي صورة، وفي الخوف من غير الله في أي صورة. وفي الاعتقاد بنفع أو ضر في غير الله في أي صورة.. عن ابن عباس قال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل .

                                                                                                                                                                                                                                      وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي. ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت! وقول الرجل: لولا الله وفلان.. هذا كله به شرك" ...

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الحديث أن رجلا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله وشئت. قال: أجعلتني لله ندا ؟ ! هكذا كان سلف هذه الأمة ينظر إلى الشرك الخفي والأنداد مع الله..

                                                                                                                                                                                                                                      فلننظر نحن أين نحن من هذه الحساسية المرهفة، وأين نحن من حقيقة التوحيد الكبيرة!!!

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية