الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وفي نهاية الآية تجيء هذا اللمسات المتنوعة المقاصد: [ ص: 593 ] آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا. فريضة من الله. إن الله كان عليما حكيما ..

                                                                                                                                                                                                                                      واللمسة الأولى لفتة قرآنية لتطييب النفوس تجاه هذه الفرائض. فهنالك من تدفعهم عاطفتهم الأبوية إلى إيثار الأبناء على الآباء ، لأن الضعف الفطري تجاه الأبناء أكبر. وفيهم من يغالب هذا الضعف بالمشاعر الأدبية والأخلاقية فيميل إلى إيثار الآباء. وفيهم من يحتار ويتأرجح بين الضعف الفطري والشعور الأدبي.. كذلك قد تفرض البيئة بمنطقها العرفي اتجاهات معينة كتلك التي واجه بها بعضهم تشريع الإرث يوم نزل، وقد أشرنا إلى بعضها من قبل.. فأراد الله سبحانه أن يسكب في القلوب كلها راحة الرضى والتسليم لأمر الله ، ولما يفرضه الله بإشعارها أن العلم كله لله وأنهم لا يدرون أي الأقرباء أقرب لهم نفعا، ولا أي القسم أقرب لهم مصلحة:

                                                                                                                                                                                                                                      آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ..

                                                                                                                                                                                                                                      واللمسة الثانية لتقرير أصل القضية. فالمسألة ليست مسألة هوى أو مصلحة قريبة. إنما هي مسألة الدين ومسألة الشريعة:

                                                                                                                                                                                                                                      فريضة من الله ..

                                                                                                                                                                                                                                      فالله هو الذي خلق الآباء والأبناء. والله هو الذي أعطى الأرزاق والأموال. والله هو الذي يفرض، وهو الذي يقسم، وهو الذي يشرع. وليس للبشر أن يشرعوا لأنفسهم، ولا أن يحكموا هواهم، كما أنهم لا يعرفون مصلحتهم! إن الله كان عليما حكيما ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهي اللمسة الثالثة في هذا التعقيب. تجيء لتشعر القلوب بأن قضاء الله للناس - مع أنه هو الأصل الذي لا يحل لهم غيره - فهو كذلك المصلحة المبنية على العلم والحكمة. فالله يحكم لأنه عليم - وهم لا يعلمون - والله يفرض لأنه حكيم - وهم يتبعون الهوى.

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا تتوالى هذه التعقيبات قبل الانتهاء من أحكام الميراث، لرد الأمر إلى محوره الأصيل. محوره الاعتقادي. الذي يحدد معنى " الدين " فهو الاحتكام إلى الله. وتلقي الفرائض منه. والرضى بحكمه: فريضة من الله. إن الله كان عليما حكيما ..

                                                                                                                                                                                                                                      12 - ثم يمضي يبين بقية الفرائض:

                                                                                                                                                                                                                                      ولكم نصف ما ترك أزواجكم - إن لم يكن لهن ولد - فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن - من بعد وصية يوصين بها أو دين. ولهن الربع مما تركتم - إن لم يكن لكم ولد - فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم - من بعد وصية توصون بها أو دين - ..

                                                                                                                                                                                                                                      والنصوص واضحة ودقيقة فللزوج نصف تركة الزوجة إذا ماتت وليس لها ولد - ذكرا أو أنثى - فأما إذا كان لها ولد - ذكرا أو أنثى، واحدا أو أكثر - فللزوج ربع التركة . وأولاد البنين للزوجة يحجبون الزوج من النصف إلى الربع كأولادها. وأولادها من زوج آخر يحجبون الزوج كذلك من النصف إلى الربع.. وتقسم التركة بعد الوفاء بالدين ثم الوصية . كما سبق.

                                                                                                                                                                                                                                      والزوجة ترث ربع تركة الزوج - إن مات عنها بلا ولد - فإن كان له ولد - ذكرا أو أنثى. واحدا أو متعددا. منها أو من غيرها. وكذلك أبناء ابن الصلب - فإن هذا يحجبها من الربع إلى الثمن.. والوفاء بالدين ثم الوصية مقدم في التركة على الورثة.. [ ص: 594 ] والزوجتان والثلاث والأربع كالزوجة الواحدة ، كلهن شريكات في الربع أو الثمن.

                                                                                                                                                                                                                                      والحكم الأخير في الآية الثانية حكم من يورث كلالة :

                                                                                                                                                                                                                                      وإن كان رجل يورث كلالة - أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس. فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار ..

                                                                                                                                                                                                                                      والمقصود بالكلالة من يرث الميت من حواشيه - لا من أصوله ولا من فروعه - عن صلة ضعيفة به ليست مثل صلة الأصول والفروع. وقد سئل أبو بكر - رضي الله عنه - عن الكلالة فقال: أقول فيها برأيي. فإن يكن صوابا فمن الله. وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان. والله ورسوله بريئان منه: الكلالة من لا ولد له ولا والد. فلما ولي عمر قال: إني لأستحيي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه . (رواه ابن جرير وغيره عن الشعبي ) ..

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير في التفسير: " وهكذا قال علي وابن مسعود . وصح عن غير واحد عن ابن عباس ، وزيد ابن ثابت . وبه يقول الشعبي والنخعي والحسن وقتادة وجابر بن زيد والحكم . وبه يقول أهل المدينة ، وأهل الكوفة ، والبصرة . وهو قول الفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة، وجمهور السلف والخلف. بل جميعهم. وقد حكى الإجماع عليه غير واحد " ..

                                                                                                                                                                                                                                      وإن كان رجل يورث كلالة - أو امرأة - وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس. فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ..

                                                                                                                                                                                                                                      وله أخ أو أخت - أي: من الأم - فلو كانا من الأبوين أو من الأب وحده لورثا وفق ما ورد في الآية الأخيرة من السورة للذكر مثل حظ الأنثيين: لا السدس لكل منهما سواء كان ذكرا أم أنثى. فهذا الحكم خاص بالأخوة من الأم . إذ أنهم يرثون بالفرض - السدس لكل من الذكر أو الأنثى - لا بالتعصيب، وهو أخذ التركة كلها أو ما يفضل منها بعد الفرائض:

                                                                                                                                                                                                                                      فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ..

                                                                                                                                                                                                                                      مهما بلغ عددهم ونوعهم. والقول المعمول به هو أنهم يرثون في الثلث على التساوي. وإن كان هناك قول بأنهم - حينئذ - يرثون في الثلث: للذكر مثل حظ الأنثيين. ولكن الأول أظهر لأنه يتفق مع المبدأ الذي قررته الآية نفسها في تسوية الذكر بالأنثى: فلكل واحد منهما السدس ..

                                                                                                                                                                                                                                      والإخوة لأم يخالفون - من ثم - بقية الورثة من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنهم لا يرثون إلا أن يكون ميتهم يورث كلالة. فلا يرثون مع أب ولا جد ولا ولد ولا ولد ابن.

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث:

                                                                                                                                                                                                                                      أنهم لا يزادون على الثلث وإن كثر ذكورهم وإناثهم.

                                                                                                                                                                                                                                      من بعد وصية يوصى بها أو دين - غير مضار ..

                                                                                                                                                                                                                                      تحذيرا من أن تكون الوصية للإضرار بالورثة. لتقام على العدل والمصلحة. مع تقديم الدين على الوصية.

                                                                                                                                                                                                                                      وتقديمهما معا على الورثة كما أسلفنا..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يجيء التعقيب في الآية الثانية - كما جاء في الآية الأولى - :

                                                                                                                                                                                                                                      وصية من الله. والله عليم حليم .. [ ص: 595 ] وهكذا يتكرر مدلول هذا التعقيب لتوكيده وتقريره.. فهذه الفرائض وصية من الله صادرة منه ومردها إليه. لا تنبع من هوى، ولا تتبع الهوى. صادرة عن علم.. فهي واجبة الطاعة لأنها صادرة من المصدر الوحيد الذي له حق التشريع والتوزيع. وهي واجبة القبول لأنها صادرة من المصدر الوحيد الذي عنده العلم الأكيد.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية