الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولكن السياق يمضي يزيد هذا الاعتداء نكارة وبشاعة ; بتصوير استجابة النموذج الآخر ; ووداعته وطيبة قلبه :

                                                                                                                                                                                                                                      قال: إنما يتقبل الله من المتقين .

                                                                                                                                                                                                                                      هكذا في براءة ترد الأمر إلى وضعه وأصله ; وفي إيمان يدرك أسباب القبول ; وفي توجيه رفيق للمعتدي أن يتقي الله ; وهداية له إلى الطريق الذي يؤدي إلى القبول ; وتعريض لطيف به لا يصرح بما يخدشه أو يستثيره . .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يمضي الأخ المؤمن التقي الوديع المسالم يكسر من شرة الشر الهائج في نفس أخيه الشرير :

                                                                                                                                                                                                                                      لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين . .

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا يرتسم نموذج من الوداعة والسلام والتقوى ; في أشد المواقف استجاشة للضمير الإنساني ; وحماسة للمعتدى عليه ضد المعتدي ; وإعجابا بهدوئه واطمئنانه أمام نذر الاعتداء ; وتقوى قلبه وخوفه من رب العالمين .

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد كان في هذا القول اللين ما يفثأ الحقد ; ويهدئ الحسد ، ويسكن الشر ، ويمسح على الأعصاب المهتاجة ; ويرد صاحبها إلى حنان الأخوة ، وبشاشة الإيمان ، وحساسية التقوى .

                                                                                                                                                                                                                                      أجل . لقد كان في ذلك كفاية . . ولكن الأخ الصالح يضيف إليه النذير والتحذير :

                                                                                                                                                                                                                                      إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين . .

                                                                                                                                                                                                                                      إذا أنت مددت يدك إلي لتقتلني ، فليس من شأني ولا من طبعي أن أفعل هذه الفعلة بالنسبة لك . فهذا الخاطر - خاطر القتل - لا يدور بنفسي أصلا ، ولا يتجه إليه فكري إطلاقا . . خوفا من الله رب العالمين . . لا عجزا عن إتيانه . . وأنا تاركك تحمل إثم قتلي وتضيفه إلى إثمك الذي جعل الله لا يتقبل منك قربانك ; فيكون إثمك مضاعفا ، وعذابك مضاعفا . . وذلك جزاء الظالمين . .

                                                                                                                                                                                                                                      وبذلك صور له إشفاقه هو من جريمة القتل ، ليثنيه عما تراوده به نفسه ، وليخجله من هذا الذي تحدثه به نفسه تجاه أخ مسالم وديع تقي .

                                                                                                                                                                                                                                      وعرض له وزر جريمة القتل لينفره منه ، ويزين له الخلاص من الإثم المضاعف ، بالخوف من الله رب العالمين ; وبلغ من هذا وذلك أقصى ما يبلغه إنسان في صرف الشر ودوافعه عن قلب إنسان .

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن النموذج الشرير لا تكمل صورته ، حتى نعلم كيف كانت استجابته :

                                                                                                                                                                                                                                      فطوعت له نفسه قتل أخيه، فقتله، فأصبح من الخاسرين . .

                                                                                                                                                                                                                                      بعد هذا كله . بعد التذكير والعظة والمسالمة والتحذير . بعد هذا كله اندفعت النفس الشريرة ، فوقعت الجريمة . وقعت وقد ذللت له نفسه كل عقبة ، وطوعت له كل مانع . . طوعت له نفسه القتل . . وقتل من ؟ قتل أخيه . . وحق عليه النذير :

                                                                                                                                                                                                                                      فأصبح من الخاسرين . . [ ص: 877 ] خسر نفسه فأوردها موارد الهلاك . وخسر أخاه ففقد الناصر والرفيق . وخسر دنياه فما تهنأ للقاتل حياة . وخسر آخرته فباء بإثمه الأول وإثمه الأخير . .

                                                                                                                                                                                                                                      ومثلت له سوأة الجريمة في صورتها الحسية . صورة الجثة التي فارقتها الحياة وباتت لحما يسري فيه العفن ، فهو سوأة لا تطيقها النفوس .

                                                                                                                                                                                                                                      وشاءت حكمة الله أن تقفه أمام عجزه - وهو الباطش القاتل الفاتك - عن أن يواري سوأة أخيه . عجزه عن أن يكون كالغراب في أمة الطير :

                                                                                                                                                                                                                                      فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين . .

                                                                                                                                                                                                                                      وتقول بعض الروايات : إن الغراب قتل غرابا آخر ، أو وجد جثة غراب أو جاء ومعه جثة غراب ، فجعل يحفر في الأرض ، ثم واراه وأهال عليه التراب . . فقال القاتل قولته . وفعل مثلما رأى الغراب يفعل . .

                                                                                                                                                                                                                                      وظاهر أن القاتل لم يكن قد رأى من قبل ميتا يدفن - وإلا لفعل - وقد يكون ذلك لأن هذا كان أول ميت في الأرض من أبناء آدم . أو لأن هذا القاتل كان حدثا ولم ير من يدفن ميتا . . والاحتمالان قائمان . وظاهر كذلك أن ندمه لم يكن ندم التوبة - وإلا لقبل الله توبته - وإنما كان الندم الناشئ من عدم جدوى فعلته ، وما أعقبته له من تعب وعناء وقلق .

                                                                                                                                                                                                                                      كما أن دفن الغراب لأخيه الغراب ، قد يكون من عادات الغربان كما يقول بعض الناس . وقد يكون حدثا خارقا أجراه الله . . وهذه كتلك سواء . . فالذي يودع الأحياء غرائزهم هو الذي يجري أي حدث على يد أي حي . . هذا من قدرته ، وهذا من قدرته على السواء . .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية