ولما كان ما رأى من الأفعال ، وسمع من الأقوال ، مقتضيا للأمن [ ص: 285 ] من أن يكذبوه ، وكان عالما بما هم عليه من القساوة والكبر ، أشار إلى ذلك بالتأكيد ، أي : وإذا كذبوني عسرت علي المحاججة على ما هو عادة أهل الهمم عند تمالؤ الخصوم على العناد ، والإرسال موجب لكلام كثير وحجاج طويل ، وقريب من هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى بإنذار قومه : وكأن مراد السادة القادة عليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام الاستعلام عن الأمر هل يجري على العادة أو لا؟ فإن كان يجري على العادة وطنوا أنفسهم على الموت ، وإلا ذكر لهم الأمر الخارق فيكون بشارة لهم ، ليمضوا في الأمر على بصيرة ، ويسيروا فيه على حسب ما يقتضيه من السيرة. إذن يثلغوا رأسي فيجعلوه خبزة
ولما أكد أمر الطلب بهارون عليهما الصلاة والسلام ، أكد له سبحانه أمر الإجابة بقوله مستأنفا : قال سنشد وذكر أولى الأعضاء بمزاولة المكاره فقال : عضدك أي : أمرك بأخيك أي : سنقويك ونعينك به إجابة لسؤالك صلة منك لأخيك ، وعونا منه لك ونجعل لكما سلطانا أي : ظهورا عظيما عليهم ، وغلبة لهم بالحجج [ ص: 286 ] والهيبة لأجل ما ذكرت من الخوف فلا [أي : ] فيتسبب عن ذلك أنهم لا يصلون إليكما بنوع من أنواع الغلبة بآياتنا أي : نجعل ذلك بسبب ما يظهر على أيديكما من الآيات المعظمة بنسبتها إلينا ، ولذلك كانت النتيجة أنتما ومن اتبعكما أي : من قومكما وغيرهم الغالبون أي : لا غيرهم ، وهذا يدل على أن فرعون لم يصل إلى السحرة بشيء مما هددهم به ، لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين لأنفسهم في الله ، وكأنه حذف أمرهم هنا لأنه في بيان أمر فرعون وجنوده بدليل ما كرر من ذكرهم ، وقد ، ومع ذلك فقد أشار إليهم بهذه الآية والتي بعدها ، وسيأتي في آخر سورة الحديد عن تاريخ كشفت العاقبة عن أن السحرة ليسوا من جنوده ، بل من حزب الله وجنده ابن عبد الحكم أنهم خلصوا ورجع بعضهم إلى مصر فكانوا أول من ترهب.
شرح ما مضى من التوراة ، قال بعدما تقدم : وكان من بعد [ ص: 287 ] أيام كثيرة مات فرعون ملك مصر فاستراح بنو إسرائيل من شدة تعبدهم ، فصلوا فسمع الله صلاتهم ، وعرف تعبدهم ، وسمع ضجتهم ، وذكر عهده لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فأبصر الله بني إسرائيل ، وعرف ذلهم ، فكان موسى يرعى غنم يثرو ختنه حبر مدين ، فساق بالشاء إلى طرف البرية وأتى إلى حوريب جبل الله ، فتراءى له ملك الله بلهب النار من جوف العوسج ، تشتعل فيه النار ، ولم يكن العوسج يحترق ، فقال موسى : لأعدلن فأنظر إلى هذه الرؤيا العظيمة; ما بال هذه العوسجة لم تحترق؟ فرأى الرب أنه قد عدل لينظر ، فدعاه الله من جوف العوسج وقال له : يا موسى يا موسى ! فقال : هأنذا! قال : لا تدن إلى ههنا ، اطرح خفيك عن قدميك ، لأن المكان الذي أنت واقف عليه مكان طاهر ، وفي نسخة : مقدس ، وقال الله : أنا إله أبيك إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب ، فغطى موسى وجهه لأنه فرق أن يمد بصره نحو الرب ، وقال الرب : إني قد رأيت ذل شعبي بمصر ، وسمعت ضجتهم التي ضجوا من تعبدهم ، لأني عارف براءتهم ، فنزلت لأخلصهم من أيدي المصريين ، وأن أصعدهم [ ص: 288 ] من تلك الأرض إلى أرض صالحة واسعة ، تغل السمن والعسل : أرض الكنعانيين والحاثانيين والأمورانيين والفرزانيين والحاوانيين واليابسانيين ، والآن هو ذا ضجيج بني إسرائيل قد ارتفع إلي ، ورأيت ضر المصريين لهم ، فهبطت الآن حتى أرسلك إلى فرعون ، وأخرج شعبي بني إسرائيل من مصر ، فقال موسى لله : من أنا حتى أنطلق إلى فرعون وأخرج بني إسرائيل من مصر ، فقال الله : أنا [أكون] معك وهذه الآية لك أني أرسلتك : إنك إذا أخرجت الشعب من مصر تعبدون الله في هذا الجبل ، فقال موسى : ها أنذا منطلق إلى بني إسرائيل وأقول لهم : الرب إله آبائكم أرسلني إليكم ، فإن قالوا [لي] : ما اسمه؟ ما الذي أقول؟ فقال الرب لموسى : قل لهم : الأزلي الذي لم يزل ، وفي نسخة : لا يزول ، وقال : هكذا قل لبني إسرائيل : أهيا شر أهيا أرسلني إليكم ، وقال الرب أيضا لموسى هكذا قل لبني إسرائيل : [ ص: 289 ] الله ربكم إله آبائكم إله إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب أرسلني إليكم هذا اسمي إلى الأبد ، وهذا ذكري إلى حقب الأحقاب ، انطلق فاجمع أشياخ بني إسرائيل وقل لهم : الرب إله آبائكم اعتلن لي ، وإله إبراهيم [وإسحاق] ويعقوب يقول لكم : قد ذكرتكم وذكرت ما صنع بكم بمصر ، ورأيت إخراجكم من تعبد أهل مصر إلى أرض الكنعانيين - ومن تقدم معهم - إلى الأرض التي تغل السمن والعسل ، فإذا قبلوا منك فادخل أنت وأشياخ بني إسرائيل [إلى] ملك مصر فقولوا له : الرب إله العبرانيين ظهر علينا فننطلق الآن مسيرة ثلاثة أيام في البرية ونذبح الذبائح لله ربنا ، وأنا أعلم أن ملك مصر لا يدعكم تخرجون ، ولا بيد واحدة شديدة ، حتى أبعث بآفتي وأضرب المصريين بجميع العجائب [التي] أحدثها فيهم ، ومن بعد ذلك يرسلكم [فأجعل] للشعب في أعين المصريين رأفة ورحمة ، فإذا انطلقتم فلا تنطلقوا عطلا صفرا ، بل تستعير المرأة منكم من جاراتها وساكنة بيتها حلي ذهب وفضة وكسوة ، وألبسوها بنيكم وبناتكم ، وأخربوا أهل مصر ، فأجاب موسى وقال : إنهم لا يصدقونني ، ولا يقبلون قولي ، لأنه يقولون : [ ص: 290 ] لم يتراءى لك الرب ، فقال له الرب : [ما هذه التي في يدك؟ فقال : هي عصاي ، فقال : ألقها في الأرض ، فألقاها في الأرض ، فصارت ثعبانا ، فهرب منه موسى ، فقال له الرب] : يا موسى ! مد يدك ، فخذ بذنبها ، [فمد يده] فأمسكه فتحول في يده عصا ، فقال : لكي يصدقوا أن الله إله آبائهم قد تراءى لك ، إله إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب ، وقال الرب لموسى : اردد يدك في ردنك ، وفي نسخة : في كمك ، فأدخلها ثم أخرجها فإذا بيده بيضاء كالثلج ، فقال له : اردد يدك في حضنك ، وفي نسخة : في كمك ، فردها ثم أخرجها فإذا هي مثل جسده ، فإن هم لم يؤمنوا ولم يسمعوا بالآية الأولى فإنهم يؤمنون ويسمعون بالآية الأخرى ، فإن لم يؤمنوا بالآيتين ، ولم يسمعوا قولك فخذ ماء من الأرض ، وفي نسخة : النيل ، فاصببه على الأرض ، فإنه ينقلب ويصير دما في اليبس ، فقال موسى للرب : أطلب إليك يا رب لست رجلا ناطقا منذ أمس ولا قبله ولا من الوقت الذي كلمت عبدك فيه ، [لأني] ألثغ المنطق عسر [ ص: 291 ] اللسان ، فقال له الرب : من الذي خلق المنطق للإنسان؟ ومن الذي خلق الأخرس والأصم والمبصر والمكفوف؟ أليس أنا الرب الذي أصنع ذلك؟ فانطلق الآن وأنا أكون معك ، وراقبا للسانك وألقنك ما تنطق به ، فقال :موسى أطلب إليك يا رب! أرسل في هذه الرسالة غيري ، فقال : هذا أخوك هارون اللاوي ، قد علمت أنه ناطق لسن ، وهو أيضا سيلقاك ، ويشتد فرحه بك ، وأخبره بالأمر ، ولقنه كلامي ، وأنا أكون راقبا على فيك وفيه وأعلمكما ما تصنعان ، وهو يكلم الشعب عنك; فيكون لك مترجما ، وأنت تكون له إلها ، وفي نسخة : أستاذا ومدبرا ، وخذ في يديك هذه العصا لتعمل بها الآيات ، فرجع موسى منطلقا إلى ثيرو ختنه وقال له : إني راجع إلى إخوتي بمصر ، وناظر هل هم أحياء بعد؟ فقال : ثيرو لموسى : انطلق راشدا سالما ، وقال الرب لموسى في مدين : انطلق راجعا إلى مصر لأن الرجال الذين كانوا معك يطلبون نفسك قد هلكوا جميعا - إلى آخر ما مضى في الأعراف- وفي هذا الفصل ما لا يسوغ إطلاقه في شرعنا على مخلوق ، [وهو] الإله ، وهو في لغة العبرانيين بمعنى العالم ، وفيه أيضا أن والحاكم فرعون مات قبل رجوع موسى فإن [كان] المراد الذي [ ص: 292 ] ربى موسى عليه الصلاة والسلام في بيته فهو مما بدلوه.