ولما كان الملك كمال استيلاء على الخلق يقصرهم به ملكهم على بعض مستطاعهم ويدينهم - أي يجزيهم - على حسب دينهم أي ما وضع لهم من عادة قصره لهم وحكمه عليهم وبحسب إحصائه عليهم دقيق أعمالهم وإحاطته بخفي أحوالهم والاطلاع على سرائرهم بتحقيق استيفاء الجزاء فيتحقق بذلك كمال الملك، فكان لذلك لا تتحقق حقيقة الملك فيمن هو دون العلم [ ص: 468 ] بالسر وأخفى، والمحصي الحسيب لمثاقيل الذر، الخبير بخبأ الكون، فكان لا ملك في الحقيقة إلا الله، ولكنه تعالى لما كان قد أولى الخلق من رفعة بعضهم فوق بعض ما أجرى عليهم اسم الملك فتنة لهم فضل بسبب ذلك قوم ادعوا الملك الحقيقي، فغلط من أراد الله من الخلق فيهم فضلوا بهم، أعاد التهليل مع اسمه الملك كما ابتدأه مع اسمه الإله أول أسماء الله، ولذلك أيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رضي الله عنه الذي رواه الشيخان أبي هريرة وأبو داود في حديث الذي يسمى ملك الملوك في رواية والترمذي مسلم: لا ملك إلا الله ، فقال مصرحا بما في باطن اسمي الرحمة من القهر والجبر على النسق الأول في البناء على الضمير تأكيدا لتعين المحدث عنه [وتوحيده]: هو الله أي الذي لا يقدر على تعميم الرحمة لمن أراد وتخصيصها بمن شاء الذي لا إله أي معبود بحق إلا هو الملك فلا ملك في الحقيقة إلا هو لأنه لا يحتاج إلى شيء، فإنه مهما أراد كان.
ولما كان الملك أصل ما لحق الخلق من الآفات لأنه رأس الشرف الذي هو باب الترف الملازم لمخالفة كتاب الله أما في الأعمال فيكون فتنة، وأما في الرأي فيكون علوا وكبرا وكفرا، فإن أمر الله في آدم على ما هو نبوة ثم ينزل فيصير خلافة ثم ينتهي نزوله فيكون [ ص: 469 ] ملكا ثم تتداعى الأحداث، فلمكان تداعي الملك لموجبات الذم قال عقب صفات الملك: القدوس مصرحا بما لزم عن تمام ملكه من أنه بليغ في النزاهة عن كل وصم يدركه حس أو يتصوره خيال أو يسبق إليه وهم أو يختلج به ضمير، فإن القدس طهر لا يقبل التغير ولا يلحقه رجس فلا يزال على وصف الحمد بثبات القدس، ولمكان ما حول سبحانه الخلق من حال طهر لا يظهر فيه تغير [بما] دونه أجرى عليهم اسم القدس كروح القدس المؤيد للشارع ينفث في روعة المؤيد لشاعره في مكافحته عنه، ولأجل قصر تخلي الخالق بالملك في قليل متاع الدنيا رغب النبي العبد صلى الله عليه وسلم عنه، واختار العبودية الدائمة بدوام العزة لسيده، فوضح بذلك علم أن لا قدوس إلا الله حقيقة معنى وتصحيح إحاطة.
ولما فلا يقبح منه إهلاك على حال من الأحوال ولا مس بضر في الدنيا والآخرة في وقت من الأوقات لأنه سبحانه، لعلمه بالظواهر والبواطن على حد سواء، يصنع الأمور في [ ص: 470 ] أحكم مواضعها بما لا يدركه غيره أصلا أو لا يدركه حق إدراكه فاحتيج إلى ما يؤمن من ذلك، وكان السلام حد ما بين الألفة والفرقة وحد ما بين الرحمة والسطوة وهو أدنى منال الجاهل من عباد الرحمن، ومنال المعتدي من المقتدر، وكان سلام المسلم للجاهل مداراة لئلا يزيد في جهله عليه، أو ارتقابا لاستقبال مكنة، وكان الله لا يعبأ بالخلق ولا يحتاج لارتقاب مكنة لأنه لا يعجزه شيء فلم يتحقق السلام بكل معنى من وجود السلامة له وإفاضتها على غيره تماما إلا منه [إعفاء من معاجلة استحقاق السطوة وحفيظة لحرمة اختصاص الرحمة، أتبع ذلك مؤمنا] للعاصي من المعاجلة وللمطيع من سوء المعاملة قوله: كان سبحانه لتمام ملكه وعلو ملكه وكمال قدسه لا يتصور أن يلحقه نقص في ذات ولا صفة ولا فعل، السلام لأنه حد ما بينهما ظاهرا، ولذلك أردفه بما يتعلق بالباطن لتحصل إحاطة السلامة ظاهرا وباطنا فقال: المؤمن لأن الأمن حد ما بين المحبة والكره فيمن لا وسيلة له للحب [وهو أدنى ما يقبله ذو الحق ممن يستحق منه الحب، ولذلك لم يقبل بذل الحق ممن كان ظاهر الوسيلة للحب -] إلا بالحب فلم يثبت إيمان المؤمن بمجرد الإيمان [ ص: 471 ] حبا له بل إيثارا لمحبته على كل حب ومساواة لأخيه المؤمن فيما يحب لنفسه، وأدناه الأمنة [في] الغيب من الغيبة والعيب إلى غاية الأمان من بوائق الغشم والظلم من الجار المستحق حفظ جاره في غيبه، فالإخلال بالإيمان لكونه الأمنة في الغيب نفاق، والإخلال بالإسلام لكونه السلم في المواجهة إحرام، فبأدنى إخلال في جانب الحق أو الخلق ينثلم الإسلام والإيمان، وذلك [كله] إنما هو في الحقيقة من الله تعالى فهو الذي يعزى إليه الأمن والأمان بإفادته أسبابه ومنع أسباب المخاوف فلا أمن في الوجود ولا أمان إلا وهو مستفاد من جهته.
ولما كان الاطلاع على بين ما ذكر ليتحقق معنى السلم والأمن، وعلى كل من تلك الحدود خفيا جدا يفتقر إلى مزيد علم، قال: المهيمن فإن الهيمنة شهادة خبرة وإحاطة وإبصار لكلية ظاهر الأمر وباطنه بحيث لا يخفى منه خافية هوية ولا بادية ظاهر، ولإحاطة معناه لا يكاد يقع له في الخلق مسوغ إطلاق إلا مسامحة لأن الخلق لا يشهدون إلا الظواهر ولا يشهدون من الباطن، ولذلك انعجم معناه على كثير من فصحاء العرب، فمفهوم معناه موجب توحيده فواضح إذ لا مهيمن بمعنى أنه شهيد على الوجه المشروح مع الأمانة المأمونة والحفظ والرعاية فيكون قائما على [كل] شيء بكل ما له من رزق وعمل وأجل [ ص: 472 ] إلا هو، ولذلك كان القرآن الذي هو صفته سبحانه وتعالى مهيمنا على جميع الكتب التي قبله مصدقا لما يستحق التصديق منها مكذبا لما يستحق التكذيب، فمن كان به أمهر كان بذلك أعلم.
ولما كان تمام الخبرة ملزوما لتمام القدرة، صرح بهذا اللازم فقال; العزيز والعزة غلبة لا يجد معها المغلوب وجه مدافعة ولا انفلات ولا إعجاز، فالعزيز الذي صعب على طالبه إدراكه مع افتقار كل شيء إليه في [كل] لحظة، الشديد في انتقامه الذي لا معجز له في إنفاذ حكمه، ولذلك ينظم كثيرا بآيات إمضاء الأحكام متصلا بالحكمة والعلم إنباء عن العدل، قال الغزالي: وهو الذي يقل وجود مثله وتشتد الحاجة إليه ويصعب الوصول [إليه]. ولما كان المغلوب على الشيء فيؤخذ من يده قد لا ينقاد باطنا فلا يباشر ما غلب عليه للغالب وقد [لا] يكون العز ظاهرا لكل أحد، أردفه بقوله: الجبار وهو العظيم الذي يفوت المقاوم مناله، فهو على هذا من أسماء الذات ويصلح أمور من يريد من الخلق ويقهرهم على ما يريد، فهم أحقر من أن يعصوه طرفة عين بغير إرادته، والجبر: طول يلجئ الأدنى لما يريد منه الأعلى ويغيب من [ ص: 473 ] الأعلى ما يحاول مناله [منه] الأدنى مع الظهور التام الذي تدور مادته عليه، فالجبار لا يخرج شيء من قبضته، وتقصر الأيدي عن حمى عز حضرته، ولا ينال منه إلا ما نول، وهو أبعد شيء عن أوصاف الخلق لمنال الذباب منهم ما شاء وعجزهم عنه، [و]لما فيه من الإلجاء كان هو الاسم الذي يلجئ النار لقصرها على مراده منها من الحسب الذي جبلها على ضده من الاستزادة فلا تزال تقول ما جبلت عليه: هل من مزيد، حتى يضع الجبار فيها قدمه أي يهينها فإن القدم موضع الإهانة، [وهذه الإهانة - ] هي من مبدأ ظهور غلبة الرحمة للغضب، فله الملك ظهورا بالأيدي الظاهرة من الإنسان وما دونه، وله الملكوت بطونا بالأيدي الباطنة من الملك وما دونه، وله الجبروت اختصاصا من وراء كل ملك وملكوت.
ولما كان الإلجاء قد يكون بنوع ملاطفة، أتبعه قوله: المتكبر ليعم الإلجاء الظاهر والباطن فالكبرياء جملة تأدي أمر الله وظاهر خلقه الذي يجد الخلق صغرهم من دونه وكبره عليهم وامتناعه عما لا يريد من مرادهم، لأن الكل حقيرون بالإضافة إلى جلاله وعز جبروته وعظمته [ ص: 474 ] وكماله، ولسواء الخلق في عام حضرة القدرة شملهم الصغر فلم يصح منهم كبر، ولا شرع لهم تكبر، فلم يكن للخلق منهم حقيقة حظ ولا لبس حق، فاختص بهذا الاسم لاستيلائه على الظواهر بإظهار ما له من الكبر لعدم الحاجة إلى شيء وبإلجاء غيره إلى الاحتياج إليه والإيقاع بجبابرتهم وإذلالهم وغير ذلك من الأمور المزعجة المرهبة من غير مبالاة بشيء كما اختص بالجبار لاستيلائه على البواطن.
ولما تقرر بما ذكر من مظاهر عظمته استيلاؤه على الظواهر والبواطن باللطف والعنف، أنتج ذلك تعاليه عن شوب نقص لا سيما بالشرك فقال سبحانه: سبحان الله أي تنزه الملك الأعلى الذي اختص بجميع صفات الكمال تنزها لا تدرك العقول منه أكثر من أنه علا عن أوصاف الخلق فلا يدانيه شيء من نقص عما يشركون أي من هذه المخلوقات [من] الأصنام وغيرها مما في الأرض أو في السماء من كبير وصغير. وجليل وحقير.