وقرأ الجمهور: "قضى" فعلا ماضيا، فقيل: هي على موضوعها الأصلي: قال "ويكون الضمير في ابن عطية: "تعبدوا" للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة"، وقيل: هي بمعنى أمر. وقيل: بمعنى أوحى، وقيل: بمعنى حكم، وقيل: بمعنى أوجب أو ألزم.
وقرأ بعض ولد "وقضاء" اسما مصدرا مرفوعا بالابتداء، و معاذ بن جبل: ألا تعبدوا خبره.
قوله: وبالوالدين إحسانا قد تقدم نظيره في البقرة. وقال الباء متعلقة ب "قضى"، ويجوز أن تكون متعلقة بفعل محذوف تقديره: وأوصى بالوالدين إحسانا، وإحسانا مصدر، أي: يحسنون بالوالدين إحسانا. الحوفي:
وقال "الباء من صلة الإحسان فقدمت عليه كما تقول: بزيد فانزل". وقد منع الواحدي: هذا الوجه قال: "لأن المصدر لا يتقدم عليه معموله". قلت: والذي ينبغي أن يقال: إن هذا المصدر إن عنى به أنه ينحل لحرف مصدري وفعل فالأمر على ما ذكر الزمخشري ، وإن كان بدلا من اللفظ بالفعل فالأمر على ما قال الواحدي، فالجواز والمنع بهذين الاعتبارين. [ ص: 335 ] وقال الزمخشري "قوله: وبالوالدين إحسانا عطف على "أن" الأولى، أي: أمر الله أن لا تعبدوا إلا إياه، وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا. واختار الشيخ أن يكون "إحسانا" مصدرا واقعا موقع الفعل، وأن "أن" مفسرة، و "لا" ناهية. قال: فيكون قد عطف ما هو بمعنى الأمر على نهي كقوله: ابن عطية:
3044 - ... ... ... ... يقولون: لا تهلك أسى وتجمل
قلت: و "أحسن" و "أساء" يتعديان ب إلى وبالباء. قال تعالى: وقد أحسن بي وقال كثير عزة: 3045 - أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... ... ... ...
قوله: إما يبلغن قرأ الأخوان: "يبلغان" بألف التثنية قبل نون التوكيد المشددة المكسورة، والباقون دون ألف وبفتح النون. فأما القراءة الأولى ففيها أوجه، أحدها: أن الألف ضمير الوالدين لتقدم ذكرهما، و "أحدهما" بدل منه، و "أو كلاهما" عطف عليه. وإليه نحا [ ص: 336 ] وغيره. واستشكله بعضهم بأن قوله: "أحدهما" بدل بعض من كل، لا كل من كل، لأنه غير واف بمعنى الأول، وقوله بعد ذلك: "أو كلاهما" عطف على البدل، فيكون بدلا، وهو من بدل الكل من الكل; لأنه مرادف لألف التثنية. لكنه لا يجوز أن يكون بدلا لعروه عن الفائدة; إذ المستفاد من ألف التثنية هو المستفاد من "كلاهما" فلم يفد البدل زيادة على المبدل منه. الزمخشري
قلت: هذا معنى قول الشيخ. وفيه نظر; إذ لقائل أن يقول: مسلم أنه لم يفد البدل زيادة على المبدل منه، لكنه لا يضر لأنه شأن التأكيد، ولو أفاد زيادة أخرى غير مفهومة من الأول كان تأسيسا لا تأكيدا. وعلى تقدير تسليم ذلك فقد يجاب عنه بما قال فإنه قال بعد ذكره هذا الوجه: "وهو بدل مقسم"، كقول الشاعر: ابن عطية
3045 - وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلت
الثاني: أن الألف ليست ضميرا بل علامة تثنية و "أحدهما" فاعل بالفعل قبله، و "أو كلاهما" عطف عليه. وقد رد هذا الوجه: بأن شرط الفعل الملحق به علامة تثنية أن يكون مسندا لمثنى نحو: قاما أخواك، [ ص: 337 ] أو إلى مفرق بالعطف بالواو خاصة على خلاف فيه نحو: "قاما زيد وعمرو"، لكن الصحيح جوازه لوروده سماعا كقوله:
3046 - ... ... ... ... وقد أسلماه مبعد وحميم
الثالث: نقل عن أن "كلاهما" توكيد، وهذا لا بد من إصلاحه بزيادة، وهو أن يجعل "أحدهما" بدل بعض من كل، ويضمر بعده فعل رافع لضمير تثنية، ويقع "كلاهما" توكيدا لذلك الضمير تقديره: أو يبلغا كلاهما، إلا أن فيه حذف المؤكد وإبقاء التوكيد، وفيها خلاف، أجازها الفارسي الخليل نحو: "مررت بزيد ورأيت أخاك أنفسهما" بالرفع والنصب، فالرفع على تقدير: هما أنفسهما، والنصب على تقدير أعنيهما أنفسهما، ولكن في هذا نظر: من حيث إن المنقول عن وسيبويه منع حذف المؤكد وإبقاء توكيده، فكيف يخرج قوله على أصل لا يجيزه؟ الفارسي
وقد نص على منع التوكيد فقال: فإن قلت: لو قيل: "إما يبلغان كلاهما" كان "كلاهما" توكيدا لا بدلا، فما لك زعمت أنه بدل؟ قلت: لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيدا للاثنين، فانتظم في حكمه، فوجب أن يكون مثله". الزمخشري
قلت: يعني أن: أحدهما: لا يصلح أن يقع توكيدا للمثنى ولا لغيرهما، فكذا ما عطف عليه لأنه شريكه. [ ص: 338 ] ثم قال: فإن قلت: ما ضرك لو جعلته توكيدا مع كون المعطوف عليه بدلا، وعطفت التوكيد على البدل؟ قلت: لو أريد توكيد التثنية لقيل: "كلاهما" فحسب، فلما قيل: "أحدهما أو كلاهما" علم أن التوكيد غير مراد فكان بدلا مثل الأول.
الرابع: أن يرتفع "كلاهما" بفعل مقدر تقديره: أو يبلغ كلاهما، ويكون "إحداهما" بدلا من ألف الضمير بدل بعض من كل. والمعنى: إما يبلغن عندك أحد الوالدين أو يبلغ كلاهما.
وأما القراءة الثانية فواضحة، و "إن ما": هي "إن" الشرطية زيدت عليها "ما" توكيدا، فأدغم أحد المتقاربين في الآخر بعد أن قلب إليه، وهو إدغام واجب. قال : هي "إن" الشرطية زيدت عليها "ما" توكيدا لها؛ ولذلك دخلت النون، ولو أفردت "إن" لم يصح دخولها، لا تقول: إن تكرمن زيدا يكرمك، ولكن: إما تكرمنه. الزمخشري
وهذا الذي قاله نص أبو القاسم على خلافه، قال سيبويه وإن شئت لم تقحم النون، كما أنك إن شئت لم تجئ ب "ما". قال الشيخ: "يعني مع النون وعدمها". وفي هذا نظر; لأن سيبويه: إنما نص على أن نون التوكيد لا يجب الإتيان بها بعد "أما"، وإن كان سيبويه أبو إسحاق قال [ ص: 339 ] بوجوب ذلك. وقوله بعد ذلك: كما أنك إن شئت لم تجئ ب "ما"، ليس فيه دليل على جواز توكيد الشرط مع إن وحدها.
و "عندك" ظرف ل "يبلغن" و "كلا" مثناة معنى من غير خلاف، وإنما اختلفوا في تثنيتها لفظا: فمذهب البصريين أنها مفردة لفظا، ووزنها على فعل ك "معى" وألفها منقلبة عن واو بدليل قلبها تاء في "كلتا" مؤنث "كلا" هذا هو المشهور.
وقيل: ألفها عن ياء وليس بشيء. وقال الكوفيون -وتبعهم السهيلي مستدلين على ذلك بقوله:
3047 - في كلت رجليها سلامى واحده ... ... ... ...
وحكمها أنها متى أضيفت إلى مضمر أعربت إعراب المثنى، أو إلى ظاهر أعربت إعراب المقصور عند جمهور العرب، وبنو كنانة يعربونها إعراب المثنى مطلقا فيقولون: رأيت كلي أخويك، وكونها جرت مجرى المثنى مع [ ص: 340 ] المضمر دون الظاهر يضيق الوقت عن ذكره فإني حققته في "شرح التسهيل".
ومن أحكامها: أنها لا تضاف إلا إلى مثنى لفظا ومعنى نحو: "كلا الرجلين"، أو معنى لا لفظا نحو: "كلانا"، ولا تضاف إلى مفرقين بالعطف نحو: "كلا زيد وعمرو" إلا في ضرورة كقوله:
3048 - كلا السيف والساق الذي ذهبت به على مهل باثنين ألقاه صاحبه
3049 - إن للخير والشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل
3050 - كلاهما حين جد الجري بينهما قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي
قوله: "أف" "أف" اسم فعل مضارع بمعنى أتضجر، وهو قليل; فإن أكثر باب أسماء الأفعال أوامر، وأقل منه اسم الماضي، وأقل منه اسم المضارع ك "أف" وأوه، أي: أتوجع، ووي، أي: أعجب. وكان من حقها أن تعرب لوقوعها موقع معرب، وفيها لغات كثيرة وصلها إلى تسع وثلاثين، وذكر الرماني لفظة، بها تمت الأربعون، وهي اثنان وعشرون مع الهمزة المضمومة: أف، أف، أف، بالتشديد مع التنوين وعدمه، أف، أف، أف، بالتخفيف مع التنوين وعدمه، أف بالسكون والتخفيف; أف بالسكون والتشديد، أفه أفه أفه، أفا من غير إمالة، وبالإمالة المحضة، وبالإمالة بين بين، أفو أفي: بالواو والياء وإحدى عشرة مع كسر الهمزة إف إف: بالتشديد مع التنوين وعدمه، إف إف إف بالتخفيف مع التنوين وعدمه، إفا بالإمالة. ابن عطية
وست مع فتح الهمزة: أف أف، بالتشديد مع التنوين وعدمه، أف بالسكون، أفا بالألف. فهذه تسع وثلاثون لغة، وتمام الأربعين: "أفاه" بهاء السكت. وفي استخراجها بغير هذا الضابط الذي ذكرته عسر ونصب يحتاج في استخراجه من كتب اللغة، ومن كلام أهلها، إلى [ ص: 342 ] تتبع كثير، والشيخ لم يزد على أن قال: "ونحن نسردها مضبوطة كما رأيناها" فذكرها، والنساخ خالفوه في ضبطه، فمن ثم جاء فيه الخلل، فعدلت إلى هذا الضابط المذكور ولله الحمد.
وقد قرئ من هذه اللغات بسبع: ثلاث في المتواتر، وأربع في الشاذ، فقرأ نافع وحفص بالكسر والتنوين، وابن كثير بالفتح دون تنوين، والباقون بالكسر دون تنوين، ولا خلاف بينهم في تشديد الفاء. وقرأ وابن عامر في رواية: أف بالرفع والتنوين، نافع وأبو السمال بالضم من غير تنوين، بالنصب والتنوين، وزيد بن علي "أف" بالسكون. وابن عباس:
وقوله: ولا تنهرهما ، أي: لا تزجرهما، والنهر: الزجر بصياح وغلظة وأصله الظهور، ومنه "النهر" لظهوره. وقال : "النهي والنهر والنهم أخوات". الزمخشري