قوله تعالى: إن الذين جاءوا بالإفك أجمع المفسرون; أن هذه الآية وما يتعلق بها بعدها نزلت في قصة وفي حديث الإفك أن هذه الآية إلى عشر آيات نزلت في قصة عائشة . وقد ذكرنا حديث الإفك في كتاب " الحدائق " وفي كتاب " المغني في التفسير " فلم نطل بذكره، لأن غرضنا اختصار هذا الكتاب ليحفظ . فأما الإفك، فهو الكذب، والعصبة: الجماعة . عائشة .
[ ص: 18 ] ومعنى قوله: منكم أي: من المؤمنين . وروى عن عروة أنها قالت هم أربعة: عائشة حسان بن ثابت، وعبد الله بن أبي [بن سلول]، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، وكذلك عدهم مقاتل .
قوله تعالى: لا تحسبوه شرا لكم قال المفسرون: هذا خطاب لعائشة وصفوان بن المعطل، وقيل: لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر والمعنى: إنكم تؤجرون فيه، وعائشة; لكل امرئ منهم يعني: من العصبة الكاذبة ما اكتسب من الإثم أي: جزاء ما اجترح من الذنب على قدر خوضه فيه، والذي تولى كبره منهم وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وعكرمة، ومجاهد، ، وابن أبي عبلة والحسن، ومحبوب عن أبي عمرو، ويعقوب: " كبره " بضم [ ص: 19 ] الكاف . قال وهما لغتان . وقال الكسائي: : كبر الشيء: معظمه، ومنه هذه الآية . قال ابن قتيبة قيس بن الخطيم يذكر امرأة:
تنام عن كبر شأنها فإذا قامت رويدا تكاد تنعرف
وفي المتولي لذلك قولان .
أحدهما: أنه عبد الله بن أبي، رواه عن أبو صالح ابن عباس، عن وعروة وبه قال عائشة، مجاهد، والسدي، قال المفسرون: هو الذي أشاع الحديث، فله عذاب عظيم بالنار . وقال ومقاتل . هو الذي بدأ بذلك . الضحاك
والثاني: أنه روى حسان; أن الشعبي قالت: ما سمعت أحسن من شعر عائشة وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة; فقيل: يا أم المؤمنين، أليس الله يقول: حسان، والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم فقالت: أليس قد ذهب بصره؟ وروى عنها أنها قالت: وأي عذاب أشد من العمى، ولعل الله أن يجعل ذلك العذاب العظيم ذهاب بصره، تعني مسروق حسان بن ثابت .
[ ص: 20 ] ثم إن الله عز وجل أنكر على الخائضين في الإفك بقوله: لولا إذ سمعتموه أي: هلا إذ سمعتم أيتها العصبة الكاذبة قذف عائشة ظن المؤمنون من العصبة الكاذبة، وهم حسان ومسطح والمؤمنات وهي: حمنة بنت جحش بأنفسهم وفيها ثلاثة أقوال .
أحدها: بأمهاتهم . والثاني: بأخواتهم . والثالث: بأهل دينهم، لأن المؤمنين كنفس واحدة، وقالوا هذا إفك مبين أي: كذب بين . وجاء في التفسير أن قالت له أمه: ألا تسمع ما يقول الناس في أمر أبا أيوب الأنصاري فقال: هذا إفك مبين، أكنت يا أماه فاعلته؟ قالت: معاذ الله، قال: عائشة؟! والله خير منك; فنزلت هذه الآية . فعائشة
قوله تعالى: لولا جاءوا أي: هلا جاءت العصبة الكاذبة على قذفهم [عائشة] بأربعة شهداء وقرأ الضحاك، وعاصم الجحدري: " بأربعة " منونة; والمعنى: يشهدون بأنهم عاينوا ما رموها به فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله أي: في حكمه هم الكاذبون . ثم ذكر القاذفين فقال: ولولا فضل الله عليكم ورحمته أي: لولا ما من [الله] به عليكم، لمسكم أي: لأصابكم في ما أفضتم أي: أخذتم وخضتم فيه من الكذب والقذف [ ص: 21 ] عذاب عظيم في الدنيا والآخرة . ثم ذكر الوقت الذي لولا فضله لأصابهم فيه العذاب فقال: إذ تلقونه وكان الرجل منهم يلقى الرجل فيقول: بلغني كذا، فيتلقاه بعضهم من بعض . وقرأ " إذ تلقونه " بتاء واحدة خفيفة مرفوعة وإسكان اللام وقاف منقوطة بنقطتين مرفوعة خفيفة; وقرأ عمر بن الخطاب: معاوية، وابن السميفع مثله، إلا أنهما فتحا التاء والقاف . وقرأ " تتلقونه " بتاءين مفتوحتين مع نصب اللام وتشديد القاف . وقرأ ابن مسعود: أبي بن كعب، وعائشة، ومجاهد، وأبو حيوة: " تلقونه " بتاء واحدة خفيفة مفتوحة وكسر اللام ورفع القاف . وقال " تلقونه " : يلقيه بعضكم إلى بعض وتلقونه; ومعناه: إذ تسرعون بالكذب، يقال: ولق يلق: إذا أسرع في الكذب وغيره، قال الشاعر: الزجاج:
جاءت به عنس من الشام تلق
أي: تسرع . وقال " تلقونه " أي: تقبلونه، ومن قرأ: " تلقونه " أخذه من الولق، وهو الكذب . ابن قتيبة:
قوله تعالى: وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم أي: من غير أن تعلموا أنه حق وتحسبونه يعني: ذلك القذف هينا أي: سهلا لا إثم [ ص: 22 ] فيه وهو عند الله عظيم في الوزر . ثم زاد عليهم في الإنكار فقال: ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أي: ما يحل وما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا سبحانك وهو يحتمل التنزيه والتعجب . وروت أن امرأة عائشة قالت له: ألم تسمع ما يتحدث الناس؟! فقال: أبي أيوب الأنصاري ما يكون لنا أن نتكلم بهذا ... الآية، فنزلت الآية . وقد روينا آنفا أن أمه ذكرت له ذلك، فنزلت الآية المتقدمة . وروي عن أن سعيد بن جبير لما سمع ذلك قال: سبحانك هذا بهتان عظيم، فقيل للناس: هلا قلتم كما قال سعد بن معاذ سعد؟!
قوله تعالى: يعظكم الله أي: ينهاكم الله أن تعودوا لمثله أي: إلى مثله إن كنتم مؤمنين لأن من شرط الإيمان ترك قذف المحصنة . ويبين الله لكم الآيات في الأمر والنهى .
ثم هدد القاذفين بقوله: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة أي يحبون أن يفشو القذف بالفاحشة، وهي الزنا في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا يعني: الجلد والآخرة عذاب النار . وروت عمرة عن قالت: عائشة وروى لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة، فضربوا حدهم . عن أبو صالح ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلد عبد الله بن أبي، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، فأما الثلاثة فتابوا، وأما فمات منافقا، عبد الله وبعض العلماء ينكر صحة هذا، ويقول: لم يضرب أحدا .
[ ص: 23 ] قوله تعالى: والله يعلم شر ما خضتم فيه وما يتضمن من سخط الله وأنتم لا تعلمون ذلك، ولولا فضل الله عليكم جوابه محذوف، تقديره: لعاقبكم فيما قلتم قال لعائشة . يريد: ابن عباس: مسطحا، وحسان، وحمنة .