الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1673 ] فصل

                                                                                                                                                                                                                                      في رد زعم النصارى أن إلقاء الشبه يفضي إلى السفسطة

                                                                                                                                                                                                                                      قال خير الدين في "الجواب الفسيح" قال النصارى: القول بإلقاء الشبه على عيسى - عليه السلام - قول يفضي إلى السفسطة، والدخول في الجهالات، وما لا يليق بالعقلاء؛ لأنا إذا جوزنا ذلك فينبغي إذا رأى الإنسان ولده أو زوجته لم يثق بأنه ولده أو زوجته، وكذلك سائر المعارف، لا يثق الإنسان بأحد منهم ولا يسكن إليه، ونحن نعلم بالضرورة أن الإنسان يقطع بأن ولده هو ولده، وأن كل واحد من معارفه هو، من غير شك ولا ريبة، بل القول بالشبه يمنع من الوثوق بمدينة الإنسان ووطنه إذا دخله، ولعله مكان آخر ألقي عليه الشبه، بل إذا غمض الإنسان عينيه عن صديقه بين يديه لحظة، ثم فتحها، ينبغي أن لا يقطع بأنه صديقه؛ لجواز إلقاء الشبه على غيره، وكل ذلك خلاف الضرورة، فالقول بإلقاء الشبه على غير عيسى خلاف الضرورة، كالقول بأن الواحد نصف العشرة مثلا، فلا يسمع.

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب عنه من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أن هذا تهويل ليس عليه تعويل، بل البراهين القاطعة، والأدلة الساطعة قائمة على أن الله تعالى خلق الإنسان وجملة أجزاء العالم، وإن حكم الشيء حكم مثله، فما من شيء خلقه الله تعالى في العالم إلا هو قادر على خلق مثله؛ لتعذر خلقه في نفسه، فيلزم أن يكون خلق الإنسان مستحيلا، بل جملة العالم، وهو محال بالضرورة.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا ثبت أن الله تعالى قادر على خلق مثل لكل شيء في العالم، فجميع صفات جسد عيسى - عليه السلام - لها أمثال في حيز الإمكان في العدم، يمكن خلقها في محل آخر غير جسد المسيح، فيحصل الشبه قطعا، فالقول بالشبه قول بأمر ممكن، لا بما هو خلاف الضرورة، ويؤنس ذلك أن التوراة مصرحة بأن الله تعالى خلق جميع ما للحية في عصا موسى - عليه السلام - وهو أعظم من الشبه، فإن جعل حيوان يشبه حيوانا، وإنسان يشبه إنسانا - أقرب من [ ص: 1674 ] جعل نبات يشبه حيوانا، وقلب العصا مما أجمع عليه اليهود والنصارى، كما أجمعوا على قلب النار بردا وسلاما، وعلى قلب لون يد موسى - عليه السلام - وعلى انقلاب الماء خمرا وزيتا للأنبياء - عليهم السلام - وإذا جوزوا مثل هذا فيجوز إلقاء الشبه من غير استحالة.

                                                                                                                                                                                                                                      على أن عيسى - عليه السلام - قد خولفت عادة الله تعالى الأغلبية في خلقه من ماء واحد، ونفخ جبريل في جيب مريم، فجعل شبهه على غيره ليس بأبعد من العادة من خلقه، على أن إحياءه للموتى، وإبراءه للأبرص والأكمه أعظم من إلقاء شبهه على غيره، على أن عروجه إلى السماء بناسوته وخرق السماء والتئامها ليس بأهون من ذلك، على أن رد الشمس ليوشع بن نون، ومشي عيسى وحواريه على الماء، وسائر معجزات أنبياء بني إسرائيل - ليس بأهون مما هنالك، وإذا صح عند النصارى انقلاب الخبز إلى جسد المسيح، والخمر إلى دمه في العشاء السري - لم لا يمكن أن يوقع شبهه على أحدهم؟! كما لا يخفى.

                                                                                                                                                                                                                                      وثانيها: أن الإنجيل ناطق بأن المسيح - عليه السلام - نشأ بين ظهراني اليهود، وحضر مرارا عديدة في مواسمهم وأعيادهم وهياكلهم، يعظهم ويعلمهم ويناظرهم، ويتعجبون من براعته وكثرة تحصيله، حتى إنهم (كما في الإنجيل) يقولون: أليس هذا ابن يوسف؟ أليست أمه مريم ؟ أليس إخوته عندنا؟ فمن أين له هذه الحكمة؟ وإذا، كان في غاية الشهرة والمعرفة عندهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد نص الإنجيل على أنهم عند إرادة الصلب لم يحققوه، حتى دفعوا لتلميذه ثلاثين درهما ليدلهم عليه، فما حاجتهم حينئذ أن يكتروا رجلا من تلاميذه ليعرفهم شخصه؟ لولا وقوع الشبه الذي نقول به.

                                                                                                                                                                                                                                      وثالثها: أنه - كما تقدم في الأناجيل - أخذ في حندس من الليل المظلم في حالة شوهت صورته، وغيرت محاسنه وهيئته بالضرب والسحب وأنواع النكال الموجبة لتغير الحال، ومثل ذلك يوجب اللبس بين الشيء وخلافه، فكيف بين الشيء وشبهه؟! حتى إن رئيس الكهنة عند إحضاره أقسم عليه هل هو يسوع المسيح ابن الله؟ فلم يجبه، ولو كان هو لأجابه، فمن أين للنصارى واليهود القطع بأن المصلوب هو عين عيسى [ ص: 1675 ] عليه السلام دون شبهه؟ بل إنما يحصل الظن والتخمين كما قال تعالى في كتابه المبين: وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه

                                                                                                                                                                                                                                      رابعها: قد تقدم في الأناجيل أنه لما جاء اليهود إلى محله خرج إليهم وقال: من تريدون؟ قالوا: يسوع، وقد خفي شخصه عليهم، ففعل ذلك مرتين وهم ينكرون صورته، وهذا دليل الشبه، ورفع عيسى عليه السلام، ولا سيما وقد نقل غير واحد من العلماء عن بعض النصارى القول بأن المسيح - عليه السلام - كان قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة.

                                                                                                                                                                                                                                      خامسها: قول متى في (الفصل الخامس والعشرين) من (إنجيله) ما لفظه: حينئذ قال لهم يسوع: كلكم تشكون في هذه الليلة؛ لأنه مكتوب أني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية، ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل، فأجاب بطرس وقال له: وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبدا، قال له يسوع: الحق أقول لك، إنك هذه الليلة قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      فقد شهد عليهم بالشك، بل خيرهم بطرس الذي هو خليفة عليهم شك، فقد انخرمت الثقة بأقوالهم، وصح قوله تعالى: وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن

                                                                                                                                                                                                                                      سادسها: إن في (الفصل السابع والعشرين) من (إنجيل متى) ما لفظه: حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ قائلا: قد أخطأت إذ سلمت دما بريئا، فقالوا: ما علمنا، أنت أبصر، فطرح الفضة في الهيكل وانصرف، ثم مضى وخنق نفسه. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      فهذه الأناجيل ليست قاطعة في صلبه، بل فيها اختلافات، فيحتمل أن يهوذا كذب عليهم في قوله: (هو هذا) ويدل على وقوع ذلك ويقربه ظهور ندمه بعد هذا، ولا سيما [ ص: 1676 ] وهو من جملة الاثني عشر الذين شهد لهم المسيح بالسعادة الأبدية، والسعيد لا يتم منه مثل هذا الفساد العظيم، فيلزم إما أن يهوذا ما دل عليه، أو كون المسيح ما شهد لهم بالسعادة الدائمة، أو أن أناجيلهم محرفة مبدلة، ويحتمل أن أحد أتباع المسيح باع نفسه من الله تعالى؛ وقاية للمسيح - عليه السلام - وادعى أنه هو، ومثل هذا كثير في أتباع الأنبياء، حيث يريدون أن يفدوا أنفسهم بدل أنبيائه، ويحتمل أن الأعوان أخذوا عليه رشوة وأطلقوه، وأخذوا بدله، كما أن يهوذا - مع أنه صديقه ورسوله - أخذ رشوة ودلهم عليه، ويحتمل أن الله تعالى أرسل شيطانا على صورته وصلبوه، ويحتمل أن الملك الذي نزل عليه ليقويه - كما تقدم في إنجيل لوقا بزعمهم - صار فداء له، ويحتمل أن هذا الذي نزل إنما نزل لرفعه؛ لأنه لو كان نازلا لتقويته لقواه، فلما لم نر أنه قواه فيقتضي أنه رفعه إلى السماء، أو فدى نفسه له.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض الأفاضل: ومن الأدلة على رفعه وصلب شبهه ما في الفصل التاسع من "إنجيل لوقا" ما لفظه: إن المسيح صعد إلى جبل ليصلي، وأخذ بطرس ويوحنا ويعقوب معه، وفيما هو يصلي صارت هيئته ووجهه متغيرة، ولباسه مضيئا لامعا.... إلخ.

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا فيه دلالة على رفعه وحصول الشبه الذي نقول به، إذ لا معنى لظهور موسى وإيلياء، ووقوع النوم على أصحابه، وتغير وجهه وإضاءة لباسه إلا رفعه ....

                                                                                                                                                                                                                                      ورؤيتهم له بعد ذلك إنما هو من تطور روحه؛ لأنه - عليه السلام - كان له قوة التطور، وهذا من أحكام الروح والنفس.

                                                                                                                                                                                                                                      ولئن قلنا: إنه لا يدل على الرفع بالوجه التام، غير أنا نتنزل ونقول: ما دام في هذه المرة تغيرت هيئته ووجهه ولباسه، واجتمع بالأنبياء وسمع من الغمامة هذا الصوت، فلا أقل من أن يكون ذلك مقدمة لرفعه ومقياسا ومبدأ لتقويته وإيناسا، واليهود لم يتحققوا من أنفسهم أنه هو المسيح، بل اعتمدوا على قول يهوذا كما تقدم لك، ويهوذا قوله قول فرد، وغير صالح للاحتجاج؛ للاحتمالات والأدلة التي ذكرناها لك، فلم يبق في قول الفرقتين حجة [ ص: 1677 ] أن المصلوب هو المسيح - عليه السلام - لا شبهه، وأناجيلهم حالها معلوم لديك، وبيان اشتباههم المحكي لك في القرآن لا يخفى عليك. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا سؤال يورده بعض النصارى وهو: أن عيسى - عليه السلام - إذا كان لم يصلب حقيقة، وإنما صلب رجل ألقي عليه شبهه، ورفع هو إلى السماء، فلم لم يخبر الحواريين بذلك قبل رفعه أو بعده؟

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب: أن عيسى - عليه السلام - لم يخبر بذلك لعلمه بأن أناسا سيفترون عليه ويقولون بألوهيته، فأبهم الأمر ليكون ذلك أدل على كونه عبدا من عبيد الله، لا يقدر على جلب نفع ولا دفع ضر، بخلاف ما لو أخبر بأنه لا يصلب، أو لم يصلب، وأن المصلوب شبهه، فإنه ربما كان ذلك مقويا لشبهة أولئك الجماعة، ولعدم كون هذه المسألة من المسائل الاعتقادية في الأصل، إذ لو اعتقد أحد قبل إرسال نبينا - عليه الصلاة والسلام - بصلب عيسى لم يضره ذلك، لكن لما ورد نبينا الذي لا ينطق عن الهوى أبان خطأ النصارى في الوجهين:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: اعتقاد أن عيسى إله.

                                                                                                                                                                                                                                      والآخر: اعتقاد أنه قد قتل وصلب.

                                                                                                                                                                                                                                      وأبان أنه عبد من عبيد الله تعالى، تولاه بالرسالة، واصطفاه، وحفظه من أيدي أعدائه وحماه، كذا في "منية الأذكياء في قصص الأنبياء".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية