الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : ودمان لو حلق القارن قبل الذبح ) أي يجب دمان عند أبي حنيفة بتقديم القارن أو المتمتع الحلق على الذبح وعندهما يلزمه دم واحد ، وقد نص ضابط المذهب محمد بن الحسن في الجامع الصغير على أن أحد الدمين دم القران والآخر لتأخير النسك عن وقته ، وأن عندهما يلزم دم القران فقط لكن وقع لكثير من المشايخ اشتباه بسبب ذكر الدمين في باب الجناية فإن الظاهر من العبارات أن الدمين لأجل الجناية ، وإلا كان ذكر الدم الواحد كافيا للعلم بدم القران من بابه ، ومنهم صاحب الهداية فإنه قال : فعليه دمان عند أبي حنيفة دم بالحلق في غير أوانه ; لأن أوانه بعد الذبح ودم لتأخير الذبح عن [ ص: 27 ] الحلق وعندهما يجب دم واحد ، وهو الأول ، ولا يجب بسبب التأخير شيء . ا هـ .

                                                                                        فجعل الدمين للجناية فنسبه في غاية البيان إلى التخبيط ، وإلى التناقض فإنه جعل في باب القران أحدهما للشكر والآخر للجناية ونسبه في فتح القدير إلى أنه سهو من القلم ; لأنه لو وجب ذلك لزم في كل تقديم نسك على نسك دمان ; لأنه لا ينفك عن الأمرين ، ولا قائل به .

                                                                                        ولوجب في حلق القارن قبل الذبح ثلاثة دماء في تفريع من يقول : إن إحرام عمرته انتهى بالوقوف ، وفي تفريع من لا يراه كما قدمناه خمسة دماء ; لأنه جناية على إحرامين والتقديم والتأخير جنايتان ففيهما أربعة دماء ودم القران . ا هـ .

                                                                                        وهكذا في النهاية والعناية ، ولم أر جوابا عنه وظهر لي أنه لا تخبيط ، ولا سهو من صاحب الهداية لما أن في المسألة اختلافا فما في الهداية مبني على قول بعضهم أنه يلزمه دم بالحلق في غير أوانه إجماعا كما صرح به في معراج الدراية وغيرها ويجب دم القران إجماعا ووقع الاختلاف بينهم في الدم الثالث فهاهنا مشى على هذا القول ، وأما قوله قريبا : وقالا لا شيء عليه في الوجهين ، وذكر منه ما إذا حلق قبل الذبح فهو بناء على أصل الرواية المنقولة في الجامع الصغير عنهما أو معناه لا شيء عليه عندهما بسبب التأخير ، وأما بسبب الجناية فيقولان بوجوب الدم وبهذا اندفع ما في العناية ، وأما التناقض الذي ذكره صاحب الغاية فممنوع ; لأن ما ذكره في باب القران من لزوم دم واحد لو حلق قبل الذبح فإنما هو لمن عجز عن الهدي كما هو صورة المسألة فلم يكن جانيا بالحلق في غير أوانه ; لأن الشارع أباح له التحلل بالحلق ، وإنما قدم نسكا على نسك فقط فلزمه دم ، وأما ما ذكره هنا من لزوم دمين لو حلق قبل الذبح فإنما هو لكونه جناية ; لأن الحلق لا يحل له قبل الذبح لقدرته عليه فكان جانيا مؤخرا فلزمه دمان ، وأما إلزام أن ذلك يوجب دمين فيما إذا قدم نسكا على نسك ; لأنه لا ينفك عن الأمرين ، ولم يقل به أبو حنيفة فممنوع أيضا ; لأن الحلق قبل الذبح لا يحل فكان جناية على الإحرام بخلاف الذبح قبل الرمي فإنه ليس بجناية ; لأنه مباح مشروع في نفسه ، وإنما لم يكن نسكا كاملا إذا قدمه فكيف يوجب دما ، وليس بجناية ، وإنما يجب دم واحد باعتبار التقديم وبهذا يعلم أنه لو حلق قبل الرمي فهو كما لو حلق [ ص: 28 ] قبل الذبح بالأولى .

                                                                                        وأما قوله : لوجب ثلاثة دماء فنلتزمه ; لأنه على هذا القول يلزمه ثلاثة دماء دمان للجناية ودم القران ، وأما لزوم خمسة دماء فممنوع على كل قول ; لأن جناية القارن إنما تكون مضمونة بدمين فيما على المفرد فيه دم والمفرد لو حلق قبل الذبح لا يلزمه شيء فلا يتضاعف الغرم على القارن هكذا أجاب في العناية ، وأجاب في غاية البيان بأن التضاعف على القارن إنما يكون فيما إذا أدخل نقصا في إحرام عمرته أما فيما لا يوجب نقصا فيه فلا يجب إلا دم واحد كما قدمناه فإنه قد أتى بركنها وواجبها ولهذا إذا أفاض القارن قبل الإمام أو طاف للزيارة جنبا أو محدثا لا يلزمه إلا دم واحد ; لأنه لا تعلق للعمرة بالوقوف وطواف الزيارة ، وعلى تقدير أن يكون جناية القارن مضمونة بدمين مطلقا فإنه يلزمه أربعة دماء لا خمسة ; لأن حلقه قبل أوانه جناية توجب دمين وتقديم النسك على النسك يوجب دما واحدا ودم القران ، ولا يمكن أن يتعدد دم القران ، ولا يمكن أن يتعدد دم التقديم باعتبار أنه جناية ; لأن الجناية على الحلق قبل أوانه ، وقد وجب فيها دمان فلا يجب شيء آخر هذا ما ظهر لي في توجيه كلام الهداية لكن المذهب خلافه كما قدمناه ، والله أعلم .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : ولكن وقع لكثير من المشايخ اشتباه إلخ ) قال في النهر فيه نظر إذ لا معنى للاشتباه مع التصريح بأن أحدهما دم القران . ا هـ .

                                                                                        ونقل قبله عن شرح الجامع الصغير للصدر الشهيد قارن حلق قبل أن يذبح فعليه دمان ، وقال أبو يوسف ومحمد : عليه دم واحد لجنايته على إحرامه ، وقال أبو حنيفة يلزمه دم آخر لتأخير الذبح على الحلق . ا هـ .

                                                                                        يعني فما في الهداية مبني على هذه الرواية لا اشتباه كما سيذكره المؤلف عن معراج الدراية [ ص: 27 ]

                                                                                        ( قوله : وظهر لي إلخ ) شروع في توجيه كلام الهداية وحاصل ما اعترض عليه أن في كلامه خللا من أربعة أوجه الأول مخالفته لما نص عليه في الجامع الصغير الثاني مخالفته لما ذكر في باب القران الثالث لزوم خمسة دماء على أحد القولين ، الرابع مخالفته لما نص عليه في هذا الباب من عدم وجوب شيء عندهما فيما إذا حلق قبل الذبح وسيشير إلى هذا ، وقد استوفى رحمه الله الأجوبة عن جميع ما ذكر كما لا يخفى على الناظر ، وأنت إذا تأملت ما هنا لم تر في النهر زيادة عليه بل جزمت بالعكس فقوله في النهر ، وهذا الجمع لا تراه في غير هذا الكتاب تمدح بنعمة غيره نعم صرح بأن عدم مطابقة ما في الهداية لما في الجامع إنما هو على نقل فخر الإسلام وغيره لا على ما مر عن الشهيد ، وقد أخذه من الحواشي السعدية ، ولا يبعد أن يكون ما ذكره المؤلف عن المعراج هو هذا ، وإن المراد بالبعض هو الصدر .

                                                                                        ( قوله : فما في الهداية مبني على قول بعضهم ) أي لا على الرواية السابقة عن الجامع الصغير ، وهي رواية فخر الإسلام ، ومن حذا حذوه بل على ما مر عن الصدر وفي شرح إسماعيل عن الكافي بعد نقل كلام هذا البعض ، ومن خطأ صاحب الهداية فلغفلته عن هذه الرواية ( قوله : وبهذا اندفع ما في العناية ) أي من أن ما هنا مناقض لما ذكره قريبا من أنه لا شيء عليه عندهما في الوجهين إلى أن قال : والحلق قبل الذبح ، ومن أن ذلك يأبى حمل كلامه على ما قاله بعضهم فإن ذلك صريح بأنهما لا يقولان في هذه الصورة بوجوب شيء يتعلق بالكفارة أصلا وبيان الاندفاع الذي ذكره أنه مشى في هذا الباب على القولين ففي مسألتنا على قول بعضهم ، وما قدمه قبلها قريبا على أصل رواية الجامع أو أن ما قدمه قريبا معناه لا شيء عليه عندهما بسبب التأخير لا الجناية كما حمله عليه في العناية والمثبت هنا دم الجناية في الإحرام ، وهذا الجواب عن العناية .

                                                                                        والجواب الآتي عما في غاية البيان مذكوران في الحواشي السعدية ( قوله : فإنما هو لكونه جناية ) يعني أن قول الهداية دم بالحلق في غير أوانه أراد به الجناية على الإحرام لا تقديم الحلق على الذبح يفصح عنه ما مر عن الصدر الشهيد وبه اندفع ما في الفتح من الإلزام كما سيشير إليه قريبا . ( قوله : وأما الإلزام أن ذلك يوجب دمين إلخ ) جواب عما أورده في الفتح من أنه لو وجب دم بتقديم الحلق ودم بتأخير الذبح لزم أن يجب الدمان في كل تقديم نسك على آخر لوجود التقديم والتأخير . والجواب أنك علمت أن مراد الهداية بوجوب الدم بتقديم الحلق وجوبه بالجناية لا من حيث هو تقديم والذبح قبل الرمي مشروع في نفسه ليس جناية فإنه يحل له كل وقت بخلاف الحلق فإنه لا يحل للمحرم أصلا نعم الذبح الذي هو نسك لا يجوز تقديمه على الرمي فإذا قدمه عليه لم يكن نسكا كاملا فيجب الدم باعتبار تقديمه مرادا به النسك لا بكونه نفسه جناية ( قوله : وإنما لم يكن نسكا كاملا إذا قدمه ) كذا في هذه النسخة ، وفي غيرها من النسخ [ ص: 28 ] وإن لم يكن نسكا إذا قدمه ، ولم يظهر لي معناها والأولى موافقة لما قررته أولا والمعنى ، وإنما انتفى كونه نسكا كاملا حين تقديمه فقوله إذا قدمه متعلق بانتفى المفهوم من لم يكن كما في قوله تعالى : { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } أي انتفى عنك ذلك بنعمة ربك كما ذكره في المغني ( قوله : لأن جناية القارن إنما تكون إلخ ) اعترضه في الحواشي السعدية بأن المفرد إنما لم يجب عليه شيء ; لأنه لا جناية منه على إحرامه لعدم توقت الحلق في حقه بكونه قبل الذبح ، وأما القارن فليس كذلك ثم أجاب بما يأتي . ( قوله : أما فيما لا يوجب نقصا فيه إلخ ) قدم عند قول المتن فأحلق يوم النحر حل من إحرامه عن فتح القدير أن قضاء الأعمال لا يمنع بقاء الإحرام ، والوجوب إنما هو باعتبار أنه جناية على الإحرام فتأمل .




                                                                                        الخدمات العلمية