الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        قال رحمه الله ( وإن أوصى بثلث دراهمه أو غنمه ، وهلك ثلثاه له ما بقي ) أي إذا أوصى بثلث دراهمه أو بثلث غنمه ، وهلك ثلثا ذلك ، وبقي ثلثه ، وهو يخرج من ثلث ما بقي من ماله فله جميع ما بقي من الدراهم والغنم ، وقال زفر له ثلث ما بقي من ذلك النوع لأن كل واحد منهما شركة بينهما ، والمال المشترك يهلك ما هلك منه على الشركة ، ويبقى الباقي كذلك فصار كما إذا أوصى به أجناسا مختلفة ، ولنا أن حق بعضهم يمكن جمعه في البعض الباقي فصار كما إذا أوصى بدرهم أو بعشرة دراهم أو بعشرة رءوس من الغنم فهلك ذلك الجنس كله إلا القدر المسمى فإنه يأخذه إذا كان يخرج من ثلث بقية ماله بخلاف الأجناس المختلفة فإنه لا يمكن الجمع فيها جبرا فكذا تقديما ، والمال المشترك إنما يهلك الهالك منه على الشركة أن لو استوى الحقان أما إذا كان أحدهما مقدما على الآخر فالهالك يصرف إلى المؤخر كما إذا كان في التركة ديون ووصايا وورثة ثم هلك بعض التركة فإن الهالك يصرف إلى المؤخر ، وهو الوصية والإرث لأن الدين مقدم عليهما ، وهنا الوصية مقدمة على الإرث لقوله تعالى { من بعد وصية يوصى بها أو دين } فيصرف الهلاك إلى الإرث تقديما للوصية على وجه لا ينقص حق الورثة على الثلثين من جميع التركة لأنه لا يسلم للموصى له شيء حتى يسلم للورثة ضعف ذلك ، وكذا إذا هلك البعض في المضاربة يصرف الهلاك للربح لأن رأس المال مقدم على ما عرف في موضعه الأصل في هذا الباب أن يحتاج إلى معرفة الوصية المقيدة والمطلقة والعين والدين كما سبكه المؤلف وأنواع الوصية بهما وأحكامها .

                                                                                        قال أبو يوسف العين الدراهم والدنانير دون التبر والحلي والعروض والثياب ، والدين كل شيء يكون واجبا في الذمة من ذهب أو فضة أو حنطة ، ونحو ذلك لأن العين عند الإطلاق ينصرف للذهب والفضية المضروبين ، وأما غيرهما فيسمى في اللغة عروضا وسلعة وحليا وصياغة ، وأما أنواع الوصية بهما فالوصية نوعان مرسلة ومقيدة فالمرسلة أن يوصي بجزء شائع من ماله نحو أن يوصي بثلث ماله وربعه ، والمقيدة أن يوصي بثلث مال بعينه بأن يوصي بثلث دراهمه أو دنانيره أو بثلث الغنم فالوصية المقيدة حكمها أن يكون حقه مقدما على حق الورثة ، وعلى حق الوصية المرسلة ، ولو هلك شيء منها قبل القسمة يصرف الهلاك إلى الورثة لا إلى الموصى له حيث كانت الوصايا تخرج من ثلث مال الميت بأن كان له مال آخر يعطى للموصى له كل الموصى به لأنه قيدها بنوع من المال فتقيد بذلك النوع ، ولهذا لا يزداد حقه بزيادة مال الميت ، وكذا لا ينقص بنقصانه لأن حقه لم يثبت شائعا في جميع التركة فكان حقه مقدما على حق الورثة لقوله تعالى { من بعد وصية يوصى بها أو دين } فصار الهلاك مصروفا إلى المؤخر حقه لا إلى المقدم لأنه ما لم يفضل عن الوصية لا يصير حقا للورثة .

                                                                                        وإنما حكم الوصية المرسلة فهو أن صاحبها بمنزلة واحد من الورثة لأن حقه ثبت شائعا في جميع التركة حتى يزاد حقه بزيادة المال ، وينقص بنقصانه كحق الورثة فصارت التركة كالمشتركة بينه وبين الورثة فما توى من شيء من التركة يتوى على الشركة وما بقي يبقى على الشركة فكان وارثا حكما ومعنى وموصى له اسما ، والعبرة للحكم والمعنى ، ولهذا لو اجتمع في التركة وصية مقيدة ، ووصية مرسلة تقدم الوصية المقيدة ثم تقاسم الوصية المرسلة مع الورثة على قدر حقوقهم ، وأما ما يتعلق بمسائل الهلاك والاستحقاق فلو أوصى لرجل بثلث ماله فما هلك أو استحق فهو على الحقين لأن الوصية مطلقة مرسلة لأنه أضاف الوصية إلى جميع ماله على العموم والشيوع فيكون له ثلث كل شيء من ماله فكان شريكا في التركة بمنزلة أحد الورثة فما هلك يهلك على الشركة فإن أوصى بثلث الدراهم وثلث الدنانير ثم هلك عشرون دينارا بعد موت الموصي أو قبل موته كان له ثلث ما بقي [ ص: 474 ] نصفه من الدراهم ونصفه من الدنانير لأن هذه وصية مقدمة لأنه أوصى له بثلث دراهمه ودنانيره فقد قيد الوصية بنوع مال مخصوص ، ولم يضفها إلى مال مرسل فكانت وصية مقيدة فتعلق بذلك المال بقاء وبطلانا ، ولو كان أوصى بسدس الدراهم وسدس الدنانير أخذ السدس كله من الباقي لأن الهلاك مصروف إلى حق الورثة فيبقى حق الموصى له في سدس جميع المال ، وذلك خمسة دنانير كما كان قبل الهلاك فكان له خمسة دنانير من العشرة الباقية إذ أصله ثلاثون وخمسون درهما من الدنانير ، وكذلك الإبل والبقر على هذا .

                                                                                        وإذا مات عن ألف وعبد قيمته ألف ، وأوصى أن يعتق عبده ، ولرجل بثلث ماله ، ولآخر بسدس ماله فالثلث بينهم على أحد عشر للعبد ستة ، ولصاحب الثلث أربعة ، ولآخر واحد ففي هذه المسألة يقسم على سبيل العول والمضاربة لا على سبيل المنازعة بالإجماع لأن المنازعة لا تتحقق هاهنا لأنه لا يجتمع في رقبة العبد وصيتان لأن حق الموصى له بالثلث في السعاية لا في الرقبة لأن الموصى له بثلث مال مطلقة بمنزلة أحد الورثة ، وحق الورثة في السعاية إذا كان العبد موصى بعتقه لأنهم لا يملكون العبد الموصى بعتقه ، وإن كان لا يخرج من الثلث لأنه معتق البعض ، ومعتق البعض لا يملك ، وكذلك الموصى له بالثلث مرسلا ، وإذا لم يثبت حقه في رقبة العبد فلا تنازع في العبد فيقسم على سبيل العول والمضاربة لا على سبيل المنازعة ، والوجه فيه أن يحتاج إلى فريضة لها نصف وثلث وسدس لأن العبد موصى له بنصف ماله لأن ماله ألفان ألف وعبد قيمته ألف ، ولآخر ثلث ماله ، ولآخر سدس ماله ، وأقل حساب يخرج منه هذه السهام اثنا عشر فنصفه ستة وثلثه أربعة ، وسدسه سهم فيكون كله أحد عشر فإذا صار الثلث على أحد عشر فصار الجميع ثلاثة وثلاثين فللعبد من ثلث المال ستة ، والعبد من جميع المال نصفه ، وذلك ستة عشر ونصف فيعتق منه ستة أجزاء ، ويسعى في عشرة ونصف سهم ، وللموصى له سدس جزء واحد من أحد عشر من الثلث .

                                                                                        ويبقى اثنان وعشرون ضعف ذلك للورثة فقد استقام الثلث والثلثان ، ولو استحق نصف العبد ، وضاع نصف الألف فالثلث على ستة ثلاثة للعبد وسهمان لصاحب الثلث وسهم لصاحب السدس لأنه لما استحق نصف العبد انتقصت نصف وصية العبد فبقي وصيته في ثلاثة أسهم ، ولما ضاع نصف الألف انتقص نصف وصية الموصى له بالثلث ، وهو سهمان لأنها ضاعت عليه ، وعلى الورثة لأنه بمنزلة أحد الورثة ، ووصية صاحب السدس باقية على حالها في سهم واحد لأن وصيته مقيدة بألف فصار الهلاك مصروفا إلى الورثة لأن وصيته تخرج من ثلث ماله إذا كان سدس الألف بعينها فلما ضاع نصفها انقلب ثلثه سدس ما بقي لأن سدس الكل ثلث النصف ، وإذا صار ثلث المال ستة صار الجميع ثمانية عشر ونصفه تسعة فيعتق من العبد ثلاثة أجزاء من تسعة ، ويسعى في ستة فيضم ذلك إلى النصف الآخر فيصير كله خمسة عشر للموصى له بالسدس سهم من تسعة من الخمسمائة الباقية يبقى أربعة عشر فيبقى المال على أربعة عشر سهمان لصاحب الثلث ، واثنا عشر للورثة ، وخرجه محمد على سبعة لأن بين نصيب صاحب الثلث وبين الورثة موافقة بالنصف فإن نصيب صاحب الثلث سهمان ونصيب الورثة اثنا عشر وبين العبد والدين موافقة بالنصف فاختصر نصيب كل واحد على نصفه فصار سبعة .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        الخدمات العلمية