فصل
وقوله : " ولا تفسد العقود بأن يقال : هذه ذريعة وهذه نية سوء - إلى آخره " فإشارة منه إلى قاعدتين : إحداهما أن لا اعتبار بالذرائع ولا يراعى سدها ، والثانية : أن القصود غير معتبرة في العقود ، والقاعدة المتقدمة أن الشرط المتقدم لا يؤثر ، وإنما التأثير للشرط الواقع في صلب العقد ، وهذه القواعد متلازمة ; فمن سد الذرائع اعتبر المقاصد وقال : يؤثر الشرط متقدما ومقارنا ، ومن لم يسد الذرائع لم يعتبر المقاصد ولا الشروط المتقدمة ، ولا يمكن إبطال واحدة منها إلا بإبطال جميعها ، ونحن نذكر ودلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والميزان الصحيح عليها قاعدة سد الذرائع
فصل في سد الذرائع
[ للوسائل حكم المقاصد ]
لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها ، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها ، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها ; فوسيلة المقصود تابعة للمقصود ، وكلاهما مقصود ، لكنه [ ص: 109 ] مقصود قصد الغايات ، وهي مقصودة قصد الوسائل ; فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها ، تحقيقا لتحريمه ، وتثبيتا له ، ومنعا أن يقرب حماه ، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم ، وإغراء للنفوس به ، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء ، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك ; فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد متناقضا ، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده . وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه ، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه . فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال ؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها ، والذريعة : ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء
ولا بد من تحرير هذا الموضع قبل تقريره ليزول الالتباس فيه ، فنقول
[ أنواع الوسائل وحكم كل نوع منها ]
الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان ; أحدهما : أن يكون وضعه للإفضاء إليها كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر ، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية ، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش ، ونحو ذلك ; فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها ، والثاني : أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب ، فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه ; فالأول كمن يعقد النكاح قاصدا به التحليل ، أو يعقد البيع قاصدا به الربا ، أو يخالع قاصدا به الحنث ، ونحو ذلك ، والثاني كمن يصلي تطوعا بغير سبب في أوقات النهي ، أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم ، أو يصلي بين يدي القبر لله ، ونحو ذلك . ثم هذا القسم من الذرائع نوعان ; أحدهما : أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته ، والثاني : أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته ; فهاهنا أربعة أقسام الأول وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة ، الثاني : وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة ، الثالث : وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحتها ، الرابع : وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها ، فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم ، ومثال الثالث الصلاة في أوقات النهي ومسبة آلهة المشركين بين ظهرانيهم ، وتزين المتوفى عنها في زمن عدتها ، وأمثال ذلك ، ومثال الرابع [ ص: 110 ] النظر إلى المخطوبة والمستامة والمشهود عليها ومن يطؤها ويعاملها ، وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر ونحو ذلك ; فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة ، وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريما بحسب درجاته في المفسدة ، بقي النظر في القسمين الوسط : هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما ؟ فنقول :