تنبيهات الأول : أن الصفي الهندي قد حرر المذاهب في هذه المسألة تحريرا جيدا فقال : . والثاني على قسمين : لأنه إما أن يقصر في طلبه أو لا يقصر . وإن وجده فحكم بمقتضاه فلا كلام ، وإن لم يحكم بمقتضاه فإن كان مع العلم بوجه دلالته على المطلوب فهو مخطئ وآثم وفاقا ، وإن لم يكن مع العلم ولكن قدر في البحث عنه فكذلك ، وإن لم يقصر بل بالغ في الاستكشاف والبحث ولم يعثر على وجه دلالته على المطلوب فحكمه حكم ما إذا لم يجده مع الطلب الشديد ، وسيأتي . وإن لم نجده فإن كان لتقصير في الطلب فهو مخطئ ، وآثم ، وإن لم يقصر بأن بالغ في التنقيب عنه وأفرغ الوسع في طلبه ومع ذلك لم يجده . الواقعة التي وقعت إما أن يكون عليها نص أم لا ، فإن كان الأول فإما أن يجتهد المجتهد أم لا
فإن خفي عليه الراوي الذي عنده النص ، أو عرفه ولكن مات قبل وصوله إليه فهو غير آثم قطعا ، وهل هو مخطئ أم مصيب ؟ على الخلاف الآتي فيما [ ص: 299 ] لا نص فيه ، وأولى أن يكون مخطئا . وأما التي لا نص فيها فإما أن يقال : لله فيها قبل اجتهاد المجتهد حكم معين ، أو لا ، بل حكمه تابع لاجتهاد المجتهد . فهذا الثاني قول من قال : كل مجتهد مصيب ، وهو مذهب جمهور المتكلمين ، كالشيخ أبي الحسن الأشعري والقاضي والغزالي والمعتزلة ، كأبي الهذيل وأبي علي وأتباعهم ، ونقل عن وأبي هاشم الشافعي . والمشهور عنهما خلافه . وهذا في أنه وإن لم يوجد في الواقعة حكم معين فهل وجد فيها ما لو حكم الله فيها بحكم لما حكم إلا به أو لم يوجد ذلك ؟ والأول : هو القول بالأشبه ، وهو قول كثير من المصريين وإليه صار وأبي حنيفة أبو يوسف ومحمد بن الحسن وابن سريج في إحدى الروايتين عنه .
قال القاضي في " مختصر التقريب " : ذهب بعضهم في الأشبه إلى أنه ليس هذا بل هو أولى طرق الشبه في المقاييس والعبر ، ومثلوا ذلك بإلحاق الأرز بالبر بوصف الطعم أو القوت أو الكيل ، وأحد هذه الأوصاف أشبه عند الله وأقرب في التمثيل . وأما الثاني فقول المخلص من المصوبة . وأما الأول وهو أن لله في الواقعة حكما معينا ، فإما أن يقال : عليه دلالة أو أمارة فقط ، أو ليس عليه دلالة ولا أمارة . فأما ( القول الأول ) : وهو أن على الحكم دليلا يفيد العلم فهو قول بشر المريسي والأصم وابن علية ، وهؤلاء اتفقوا على أن المجتهد مأمور بطلبه ، وأنه إذا وجده فهو مصيب ، وإذا أخطأه فهو مخطئ ، ولكنهم اختلفوا في المخطئ هل يأثم ويستحق العقاب ؟ فذهب بشر إلى التأثيم وأنكره الباقون لخفاء الدليل وغموضه . واختلفوا أيضا في أنه هل ينقض قضاء القاضي فيه ؟ فذهب الأصم إلى أنه ينقض ، وخالفه الباقون .
وأما ( القول الثاني ) : وهو أن على الحكم أمارة فقط فهو قول أكثر [ ص: 300 ] الفقهاء الأئمة الأربعة وكثير من المتكلمين ، وهؤلاء اختلفوا ، فمن قائل : إن المجتهد غير مكلف بإصابته لخفائه وغموضه وإنما هو مكلف بما غلب على ظنه ، فهو وإن أخطأ - على تقدير عدم إصابته - لكنه معذور مأجور ، وهو منسوب إلى رحمه الله تعالى . وأما ( القول الثالث ) : وهو أنه لا دلالة عليه ولا أمارة ، فذهب إليه جمع من الشافعي المتكلمين وزعموا أن ذلك الحكم " كدفين " . قال القاضي في " مختصر التقريب " : واختلف هؤلاء فذهب بعضهم إلى أن العثور عليه ليس بواجب ، وإنما الواجب الاجتهاد . وذهب بعضهم إلى أن العثور عليه مما يجب على المكلف وإن لم يكن عليه دليل . .