الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في سقوط الشفعة بعد البيع إذا وهب المشتري أو تصدق بعلم الشفيع]

                                                                                                                                                                                        وكذلك إن وهب المشتري ما اشتراه أو تصدق به وهو حاضر عالم ولم ينكر فلا شفعة له في الأول; لأن ذلك منه رضى بإسقاط القيام فيه، ولا في الثاني لأن الهبة والصدقة لا شفعة فيهما، وإن لم يعلم الشفيع كان له أن يرد الهبة والصدقة ويأخذ بالثمن الذي بيع به، ويكون الثمن للمشتري إن لم يعلم أن هناك شفيعا . واختلف إذا علم فقال ابن القاسم: الثمن للموهوب، قال: [ ص: 3330 ]

                                                                                                                                                                                        لأنه وهبه وهو عالم أنه يستشفع، فكأنه إنما وهب الثمن .

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب في كتاب محمد : الثمن للواهب ، ولا حق في الشفعة .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم: إذا ساومه الشفيع أو ساقاه أو اكترى منه فذلك قطع لشفعته .

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب في كتاب محمد: هو على شفعته، قال: لأنه يقول كما لو فعل ذلك غيري بمحضري ولم أنكر، أو حضر وهو يباع في المزايدة فزايده ثم بيع بحضرته ثم طلب شفعته كان له ذلك .

                                                                                                                                                                                        وأرى إذا ساومه أن يسأل لم يساومه؟ فقال: إن باعني بأقل وإلا رجعت الى الشفعة، حلف على ذلك، واستشفع ، وإن قال: لأشتري منه بما باعني بأكثر أو بأقل فلا شفعة .

                                                                                                                                                                                        وأما الكراء والمساقاة فإن كان أمدها سنة . . . . . . . . . . . . [ ص: 3331 ]

                                                                                                                                                                                        فأكثر فلا شفعة وإن كان أقل من سنة، فهو موضع الخلاف، فرأى ابن القاسم أن من حق المشتري أن يأخذ منه بالحضرة أو يترك فعقدة الكراء والمساقاة خلاف ما يوجبه الحكم في أخذ الشفعة .

                                                                                                                                                                                        ورأى أشهب أنه لما كان ما دون السنة لا يسقط شفعته كان بعد فعله ذلك على شفعته، فإن أراد المشتري الآن أن يلزمه الأخذ أو الترك قبل أن ينقضي ما عقد له لم يكن ذلك له، وقد سقط حقه في الإيقاف في تلك المدة; لأنه لا يملك نقض ما عقد للشفيع، وليس له أن يستحق أخذ الثمن الآن والغلة جميعا، فإذا انقضت تلك المدة استحق عليه الإيقاف على الأخذ أو الترك، ولو أراد الشفيع أن يستوجب الشفعة قبل انقضاء ما عقد من مدة الكراء والمساقاة كان ذلك له، ويتعجل منه الثمن ولا يحط عنه من الثمن شيئا، وأما قوله إن له الشفعة بعد البيع بحضرته فليس بالبين ، وذلك رضى منه بإسقاط الأخذ بالبيع الأول وله أن يأخذ بالبيع الثاني، وللمشتري أن يقوم على الشفيع فيأخذ أو يترك وقال في كتاب محمد لا يؤخر شيئا .

                                                                                                                                                                                        ولو أكرى أو ساقى غير الشفيع ولم يعلم كان للشفيع أن يرد عقده ذلك [ ص: 3332 ] ويأخذ بالشفعة ويعجل الثمن، ويختلف إذا كان عالما فعلى أحد القولين يكون ذلك رضى بإسقاط الشفعة.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا باع الشفيع النصيب الذي يستشفع به هل له الشفعة؟ والقول ألا شفعة له أحسن; لأن الشفعة جعلت لدفع الضرر الذي يدخل المشتري من المقاسمة أو تضييق نصيبه، فإذا خرج من يده نصيبه زال الوجه الذي يستشفع به.

                                                                                                                                                                                        واختلف بعد القول إن الشفعة تسقط إذا باع بعض نصيبه هل يسقط من الشفعة بقدر ما باع؟ وأرى أن يستشفع الجميع; لأن الشفعة تجب بالجزء اليسير في الجزء الكبير، وتقدم القول إن المقاسمة من الشفيع تسقط الشفعة; لأن الشفعة تجب بالشرك، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" ، فإذا اقتسما وصار للشفيع نصيب معين لم يكن له شفعة في الآخر; لأنه معين، ولم ير ابن القاسم مقاسمة غير الشفيع تسقط الشفعة، فقال في رجل اشترى شقصا من دار مشتركة، ولها شفيع غائب فقاسم المشتري من حضر من الشركاء، ثم قدم الغائب فله أن يرد القسمة ويأخذ بالشفعة ذلك له ، وفي كتاب محمد مثل ذلك، فإن كانت المقاسمة من السلطان فقال سحنون: لا يرد القسم، وللشفيع أن يأخذ للمشتري بالمقاسمة ، وأرى إذا لم [ ص: 3333 ] يكن للمشتري شفيع إلا الغائب وحده ألا مقاسمة له; لأنه دخل على أن للغائب حقا في بقاء الشرك حتى يأخذ بالشفعة أو يترك وكذلك إذا كان معه شريكا سوى الغائب فليس له أن يدعو إلى المقاسمة وذلك لشركائه إن أحبوا، ويجمع نصيب الغائب مع نصيب المشتري ليبقي على حقه في الشفعة فيستشفع إذا قدم فيجمع نصيبه مع النصيب المستشفع، فإن جهل القاسم قسم نصيب الغائب بانفراده، كان للغائب أن يرد القسم كما قال ابن القاسم; لأنه إن كان صار نصيب الغائب في طرف والمشتري في طرف، وبينهما نصيب من لم يأخذ الشفعة كان فيه ضررا على الغائب; لأن من حقه أن يجمع له جميع ذلك في موضع، وإن كان نصيب المشتري والغائب في موضع كانت الشفعة بالجوار وليس بالشرك; لأن الغائب صار له نصيب في معين لا يشركه فيه الآخذ، وهذا إنما تصح الشفعة فيه على مذهب أبي حنيفة - رضي الله عنه - .

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية