الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في توبة الزنديق وميراثه]

                                                                                                                                                                                        وأما الزنديق فإنه لا يخلو من خمسة أوجه:

                                                                                                                                                                                        إما أن يأتي تائبا قبل أن يظهر عليه، أو يظهر عليه فتشهد البينة عليه ويقر ويتمادى على ما كان يعتقده، أو يتوب عندما شهد عليه، أو يتمادى على الإنكار والتكذيب بالبينة، أو شهد عليه بعد موته.

                                                                                                                                                                                        وأحكام هذه الوجوه ثلاثة: قبول التوبة، والقتل إن لم تقبل التوبة، والميراث. فإن أتى تائبا قبل أن يظهر عليه قبلت توبته، ولم يقتل. [ ص: 4157 ]

                                                                                                                                                                                        وإن ظهر عليه فاعترف ولم يرجع قتل ولا يورث.

                                                                                                                                                                                        وإن اعترف وتاب أو كذب البينة وتمادى على الجحود قتل، ولم تقبل توبة هذا، ولم ينظر إلى جحود الآخر.

                                                                                                                                                                                        واختلف في الميراث عنهما على ثلاثة أقوال، فقال مالك مرة: يرثه ورثته من المسلمين.

                                                                                                                                                                                        وقال أيضا: لا يرثونه، وميراثه فيء لجميع المسلمين، وبه قال المغيرة وأشهب وابن عبد الحكم وابن نافع وعبد الملك وسحنون، قالوا: سبيل ماله سبيل دمه.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم: إن اعترف وتاب لم تقبل توبته وقتل ولم يرثه ورثته، وإن جحد فقتل أو مات قبل أن يظهر عليه ورثوه. وفي كتاب محمد لمالك فيمن اعترف أن أباه مات على الزندقة أو أنه كان يعبد الشمس قال: لك أن ترثه. وهذا أشد ما روي في هذا، لاعتراف الابن على الأب أن أباه كان كافرا.

                                                                                                                                                                                        وقال سحنون في منع قبول توبته إذا ظهر عليه أنه إنما يقتل الزنديق على ما يسر، وما أظهر لا يدل على ما يسره؛ لأنه كذلك كان.

                                                                                                                                                                                        وهذا الذي قاله صحيح؛ لأنه كان يبطن الكفر وينطق بالإيمان، وما زادنا [ ص: 4158 ] أكثر مما هو عليه وهو النطق باللسان، ويدل على ذلك قول الله سبحانه في المحاربين: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم [المائدة: 34] ، وإذا لم يقبل قول المحارب بعد القدرة عليه: إني تائب، مع أنه كان يعلن ما يوجب حده إلا أن تعلم توبته بالأعمال الصالحة وما يدل على نزوعه عن ذلك قبل الظهور عليه وأخذه- كان الزنديق أبين أنه لا يقبل قوله: إني تائب، إلا أن يظهر نزوعه قبل أن يظهر عليه، أو يعترف، وكذلك شاهد الزور إذا ظهر عليه، فقال: إني تائب لا يقبل ذلك منه بحضرة ما ظهر عليه، فلا تجوز شهادته إلا بما يظهر منه مما يفعله بعد ذلك، وليس بمجرد قوله: إني تائب، وأيضا فإن الزنديق كان يرى ذلك حقا وهو اجتهاده، وشاهد الزور كان يعتقد ذلك باطلا، فانتقال حاله إلى الصلاح والتدين دليل على انتقاله.

                                                                                                                                                                                        فأما ميراثه فاستدل من أوجبه لورثته بالمنافقين أنهم تركوا على ما كانوا يظهرونه من الإسلام وأجروا على أحكام الإسلام في المناكحة والموارثة وغيرها، واحتج للمنع بوجوه:

                                                                                                                                                                                        فقيل: لأن ذلك مما يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، فترك سنة، لئلا يقضي [ ص: 4159 ] حاكم بعلمه، ولقوله - صلى الله عليه وسلم: "أولئك الذين نهاني الله تعالى عن قتلهم".

                                                                                                                                                                                        وقيل: علة ذلك لئلا ينفر الناس عن الدخول في الإسلام ويقال: إنه يقتل أصحابه، لا سيما بغير بينة وبما لم يعلمه غيره.

                                                                                                                                                                                        قال محمد بن المواز: ولو أظهروا نفاقهم لقتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                        والاتفاق على نقل حكمهم اليوم عن الحكم الأول؛ لأن الحكم فيهم اليوم القتل، ولم يكن تعرض لهم قبل ذلك بقتل، وإنما التنازع في الميراث، فإذا أجري عليه القتل بما شهد عليه من الكفر أجري على مثل ذلك في الميراث. [ ص: 4160 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية