الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب فيمن يبيع حائطه، أو ثمار حائطه ويستثني بعض ذلك أو يشترط ذلك، أو يشترط ذلك المشتري على البائع

                                                                                                                                                                                        ومن باع حائطه فاستثنى بعضه، فإنه في استثنائه ذلك على ثلاثة أوجه: إما أن يستثني جزءا أو عددا، ولا يشترط خيارا، أو يشترط الخيار، فإن استثنى جزءا جاز ذلك، قل ذلك أو كثر، فإن استثنى الثلثين كان قد باع ثلثا على الشياع وذلك جائز، وكذلك إن استثنى عددا ولم يشترط خيارا، يجوز; لأنه يعود إلى الجزء، فإن استثنى ستين من مائة كان قد باع خمسيها، وإن اشترط الخيار جاز أن يكون له الخيار في أقل المبيع، ولا يجوز في أكثره، ويختلف في النصف.

                                                                                                                                                                                        وإن كان الخيار للمشتري جاز في أكثر ذلك وأقله، وإن اشترط البائع جزءا أو عددا من غير خيار، جاز ذلك; لأنه يعود إلى الجزء، فإن كانت مائة فاستثنى نصفها وعشرها، كان قد استثنى ثلاثة أخماسها، وإن اشترط جزءا وخيارا، أو عددا وخيارا لم يجز، إلا أن يكون الخيار اليسير، في تلك الجملة التي وقع فيها البيع، مثل أن تكون الجملة مائة، فيستثني المشتري النصف وخيار عشرة، فيجوز; لأنه بمنزلة من باع من رجل على الخيار، وباع [ ص: 4574 ] من آخر ما بعد خيار فلان، فالبائع يبتدئ بالخيار من الجملة، ثم يكون حق المشتري فيما بقي، ولو كان الخيار للمشتري جاز وإن كثر; لأن أكثر ذلك المبيع له بعضا بالخيار وبعضا بغير خيار، وعلى هذا يجري الجواب في عدد بغير خيار وعدد بالخيار، وإن كان الخيار في الثمار لم يجز، إن كان الخيار للمشتري.

                                                                                                                                                                                        واختلف قوله إذا كان الخيار للبائع فأجاز ذلك ومنعه، ولا فرق بين خيار المشتري والبائع، فإن كان يخشى أن يختار ثمرة إحدى الأشجار، ثم ينتقل إلى الأخرى لم يجز ذلك من بائع ولا مشتر، ويدخله التفاضل إذا كانت الثمار مما يحرم فيها التفاضل، وإن كان لا يحمل عليها ذلك، وإن اختار شيئا لم ينتقل إلى غيره، جاز ذلك وإن كان الخيار للبائع أو للمشتري.

                                                                                                                                                                                        وأرى أن يرد الأمر فيه إلى أمانة من له الخيار، للبائع أو للمشتري، ويبين له أنه إذا اختار شجرة، لم يجز له أن ينتقل عنها إلى اختيار أخرى، وإن كانت الثمار مما يجوز فيها التفاضل وهي صنف واحد جاز الخيار ويسقط الاعتراض بالتفاضل، ويبقى فيه بيع الطعام قبل قبضه إذا كان للمشتري.

                                                                                                                                                                                        وإن كان الخيار في أصناف الثمار، وكل ما يجوز فيها التفاضل لم يجز؛ لأجل الغرر، وهو إذا كان الخيار للبائع أبين في الفساد; لأنه لا يدري [ ص: 4575 ] أيهما يلزمه المشتري.

                                                                                                                                                                                        وقد اختلف في هذا الأصل إذا كان الخيار للمشتري، فقيل -فيمن اشترى عبدا أو دابة، وسمى لكل واحد ثمنا وهو بالخيار أن يأخذ أيهما أحب-: أن ذلك جائز، ولا يجوز إذا كان الخيار للبائع. وفي مختصر الوقار فيمن اشترى حائطا، فأجاز الخيار للبائع في صنفين: وإذا كان الخيار للمشتري كان أخف; لأن غرض البائع بيع سلعته وأخذ الثمن، وليس كذلك إذا كان الخيار للبائع; لأن المشتري لا يدري أيهما يلزمه البائع.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم -فيمن اشترى السمراء تسعة آصع بدينار، والمحمولة عشرة آصع بدينار، ويأخذ أيهما أحب-: ذلك فاسد; لأنه فسخ السمراء في المحمولة، والمحمولة بالسمراء، وفيه بيع الطعام قبل استيعابه، قال: وإن قال: الحنطة عشرة آصع، والتمر عشرة آصع لم يجز، ولا يجوز فسخ إحداهما في الآخر قبل أن يستوفى. فمنعه في المسألتين جميعا لإمكان أن يكون اختار أحدهما، ثم ينتقل إلى الآخر، فيدخله -إذا كانت حنطة كلها- التفاضل، وبيع [ ص: 4576 ] الطعام قبل قبضه، وإذا كانا صنفين بيع الطعام قبل قبضه، ويدخله الغرر في المسألتين جميعا على أصله.

                                                                                                                                                                                        وعلى القول أنه لا يحمل عليه أنه اختاره، لا ما يعترف باختياره: يسقط الاعتراض بالتفاضل في الصنف الواحد، وبيع الطعام قبل قبضه في الصنف الواحد وفي الصنفين، ويكون جائزا من هذا الوجه. وإذا كان المبيع جملة ثياب أو عبيد أو غنم، وكان الخيار للمشتري جاز أيضا في أكثر ذلك المبيع وأقله، وإن كان الخيار للبائع جاز في الأقل، ولا يجوز في الأكثر.

                                                                                                                                                                                        واختلف هل يجوز في النصف؟ فمنع ذلك في كتاب النكاح الأول إذا تزوج على أحد العبدين، قال: إن كان الخيار للمرأة جاز، وإن كان للزوج لم يجز، وأجازه سحنون إذا كان الخيار للزوج، وعلى هذا يجوز الخيار للبائع في النصف، وهو ظاهر قول ابن القاسم في كتاب بيع الخيار; لأنه قال: لا يجوز أن يشترط البائع جلها على الخيار، والنصف فليس هو الجل، وإذا كان المبيع أصنافا، كتانا وقطنا وحريرا والخيار للمشتري، كان على أربعة أوجه: فإن كان له الخيار في أن يأخذ أي تلك الأصناف شاء لم يجز، وسواء كان الثمن فيهما سواء أو مختلفا، فيقول: الكتان بكذا والحرير بكذا، وكان كالذي قال: أشتري منك هذا العبد بكذا، أو هذه الشاة بكذا، فذلك غير جائز، وكذلك إذا قال: تأخذ واحدة من أي هذه الأصناف، أو عشرة من كل صنف، أو عشرة من صنف واحد لم يجز، وإن قال: عشرة من كل صنف، وله أن يختارها أو يترك الجميع جاز، وإن كان الخيار للبائع لم يجز ذلك في الموضع الذي لا يجوز للمشتري، ويجوز في الموضع الذي يجوز للمشتري، بشرط أن يكون ذلك [ ص: 4577 ] أقل ذلك النصف، أو نصفه على القول الآخر.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية