الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في قدر الجائحة التي توضع في الثمار]

                                                                                                                                                                                        وأما قدر الجائحة التي توضع في الثمار: فإذا بلغت الثلث فصاعدا، فإن كانت دون ذلك لم توضع وهذا قول مالك. قال أبو محمد عبد الوهاب: لأن المشتري دخل على ذهاب اليسير من الثمرة وأنها لا تسلم كلها.

                                                                                                                                                                                        ومن قال: إن المشتري دخل على أن يسلم الثمرة من ذهاب رطبه أو [ ص: 4752 ] بسره أو من احتياز المعافين أو أكل الطير اليسير منها فقد خرج عن العادة. وليس كذلك البقول لأن العادة سلامة جميعها، فوجب أن يوضع قليلها وكثيرها.

                                                                                                                                                                                        وتعليله بالتفرقة بين البقول والثمار حسن; لأن الشأن في البقول ألا يسقط منها شيء، والمعاوضة قائمة في الثمار فينبغي أن يسقط مقال المشتري في القدر الذي أنه الغالب عليه أنه يهلك وما يبلغ الربع ولا يقارب الثلث.

                                                                                                                                                                                        فإن كان الغالب عندهم سقوط الربع فما دون بخلاف الثلث لزم إذا بلغت الجائحة الثلث، أن يوضع نصف سدس المبيع; لأن الربع لم يدخل عنده في البيع، ولم يكن له فيه مقال إن أصيب، وإنما مقاله في الزائد عليه وهو نصف السدس. ويلزم على قوله أن يفرق بين الثمار وبين كل ثمرة على عادتها. والزيتون شأنه السقوط كالثمر فيلحق به. والعنب والرمان ليس ذلك شأنهما، والشأن ثبات جميعه كالبقول فينبغي أن يوضع قليلها وكثيرها.

                                                                                                                                                                                        واختلف في جائحة البقول، فقال مالك في المدونة في السلق، [ ص: 4753 ] والكراث، والجزر، والبصل، يوضع عن المشتري جائحته. وذكر ابن الجلاب عنه أنه قال: لا يوضع عنه شيء، كثيره وقليله من المشتري.

                                                                                                                                                                                        وروى عنه ابن أشرس أن جائحته توضع إذا بلغت الثلث، وإلا لم توضع. وقال محمد: إن كان شيء لا بال له لم توضع، وإن كان له قدر وضع. وقال ابن القاسم في العتبية: ما جازت مساقاته على الاضطرار وعلى غير الاضطرار فلا جائحة فيه حتى يبلغ الثلث إلا الموز فإنه لا تجوز مساقاته ولا توضع جائحته حتى تبلغ الثلث.

                                                                                                                                                                                        فرأى أن الجائحة في الجزر والبصل واللفت والفجل وغير ذلك مما لا يجذ ولا يخلف لا توضع إلا أن تبلغ الثلث، وما كان مما يجذ ويخلف فيوضع قليله وكثيره. ولا وجه لهذا، وليس أصل الجوائح أصل المساقاة، ولا وجه أيضا لمراعاة الثلث; لأن الغالب السلامة وإن أصيب شيء فيسير. [ ص: 4754 ]

                                                                                                                                                                                        فأثبت مالك الجائحة مرة لما كان بقاؤها للسقي ولمنفعة الأرض لها; لأنها إن عجز جذاذها فسدت، وأسقطها في القول الآخر بخلاف الثمار; لأن الثمار لا تؤخر لينتقل حالها إلى صفة ليست بموجودة وقت البيع، والبقل على حاله قبل وبعد سواء، وإنما يؤخر لئلا يفسد متى تعجل، فإذا كان البائع يسقيه في خلال ذلك حط عن المشتري من الثمن بقدر ما يراد لسقيه، وإن كان لا يسقى -ولو جذ لبقيت الأرض- ذلك القدر بغير عمل لم يحط عنه شيء، وإن كان صاحبها يتعجل الانتفاع بأرضه لحط عنه بقدر ذلك.

                                                                                                                                                                                        وتوضع جائحة المقاثي قولا واحدا; لأن في بقائه إلى أن يوجد زيادة ونمو، ففارق بهذا البقل. واختلف في قدر الجائحة، فقال ابن القاسم: توضع إن بلغت الثلث. وقال أشهب في "كتاب محمد": هي مثل البقول. يريد أنه يوضع قليلها وكثيرها، وهو أقيس; لأنها وإن كانت كالثمار فليس الشأن سقوطها وإن كان باليسير.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم فيمن اشترى مقثاة وهي بطيخ وقثاء فأجيح جميع ثمرها [ ص: 4755 ] وهي تطعم في المستقبل ينظر كم كان نباتها من أول ما اشترى إلى آخر ما تنقطع ثمرتها، فينظر كم قطف منها وكم أصابت الجائحة، فإن أصابت ثلث الثمرة نظر إلى قيمة ما قطف منها، فإن كانت قيمته النصف أو الثلث أو أقل من الثلث لم يكن له إلا ذلك; لأن حملها في المشهور ونفاقها يختلف، ويقوم ما بقي مما لم يأت بعد في كثرة نباته ونفاق أسواقه مما لم يعرف صاحبه نباته به، فربما كان الأول أقل وأغلى.

                                                                                                                                                                                        فالمراعى عنده ثلث النبات فإن بلغه وضع، وإن كان ثمنه أقل من الثلث لأنه آخر بطن، وإن كان أقل من ثلث النبات وثمنه أكثر من الثلث لأنه من أول بطن لم يوضع -قال: وكل ما يحبس أوله على آخره كالنخل، والقصيل وما أشبهه فأصيب ثلث النبات وضع ثلث الثمن من غير تقويم.

                                                                                                                                                                                        وما كان لا يحبس أوله على آخره كالمقاثي وما أشبهها يراعى فيها القيم وثلث النبات جميعا. [ ص: 4756 ]

                                                                                                                                                                                        قال ابن القاسم: وكذلك الورد والياسمين وكل شيء يجنى بطنا بعد بطن فهو كالمقثاة. قال: وكذلك التفاح والخوخ والتين والرمان وما أشبه ذلك من الفاكهة، وذلك أن الرمان والخوخ وما أشبههما مما لا يخرص، إنما يشترى إذا بدا أوله ويعجل بيعه فيكون له في أول الزمان ثمن لا يكون في آخره.

                                                                                                                                                                                        قال: والذي شبه مالك من الفاكهة بالنخل مما يخرص وهو مما ييبس ويدخر مثل: الجوز والجلوز واللوز. قال: والتين وهو مما ييبس ويطعم بعضه بعد بعض فيسأل عنه أهل المعرفة. والتين على وجهين: فما كان منه لا ييبس يكون كالمقثاة يقوم أول الإبان من آخره، وما كان مما يدخر ويراد به الأسواق ليباع طريا فكذلك، وما كان بعيدا من المدن وشأن أهله تيبيسه ولا يجلب إلى الحاضرة فيباع رطبا كان ثلث النبات بثلث الثمن إلا أن يختلف الأول من الآخر بالجودة والرداءة، فيقوم كل بطن على حاله من الجودة والدناءة من غير مراعاة للأسواق، ويجمع الرمان إلى الخوخ وإن كان الرمان مخالفا له; لأنه يحبس أوله على آخره ولا يكون فسادا له.

                                                                                                                                                                                        فأرى أن يراعى فيه أيضا هل هو قريب من المصر ليتعجل بيع أوله، [ ص: 4757 ] أو بعيد فيحبس حتى يجلب مرة واحدة؟ وأما النخل فإن كان صنفا واحدا أو بعيدا من المصر كان ثلث النبات بثلث الثمن، وإن كان قريبا من المصر يراد تعجيل بيعه رطبا ولا يشترى ليدخر نظر إلى اختلاف أسواقه وأوله من آخره.

                                                                                                                                                                                        وإن اختلف ألوانه فكان صيحانيا وبرنيا وعجوة نظر إلى القيمة قولا واحدا.

                                                                                                                                                                                        واختلف بعد ذلك في قدر الجائحة. فقال ابن القاسم: إنه ينظر إلى النبات فإن لم يبلغ الثلث لم يرجع المشتري بشيء وإن كانت قيمته الثلث فأكثر، وإن بلغ الثلث رجع وإن لم يبلغ في القيمة الثلث. وقال أشهب في "كتاب محمد": يقوم كل صنف حتى يعرف قيمة الذي أصيب من قيمة غيره، فإن كان ثلث القيمة وضع، ولا يوضع حتى يكون ثلث القيمة وليس ثلث الثمرة. قال أصبغ: وذلك يعجبني وهو القياس عندي، بمنزلة اختلاف الفاكهة في الحائط الواحد يشترى جملة واحدة، وكذلك إذا كانت الثمار [ ص: 4758 ] أصنافا متفاوتة الأجناس وليست بمتقاربة. قال محمد: وذلك خلاف قول مالك وابن القاسم وابن عبد الحكم وعبد الملك.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن حبيب: ومن قول مالك في الرجل يبتاع البستان فيه أنواع الثمار من تين وعنب ورمان وما أشبهه، وكل نوع منها قد طاب أوله وحل بيعه وهي في موضع واحد مختلطة أو مواضع شتى إلا أن الصفقة جمعتها في البيع، فأصابت الجائحة نوعا منها بعضه أو كله، فإن جائحة كل ثمرة منها على حدة في تقديرها لا يضم بعضه إلى بعض وإن جمعته الصفقة، فإن بلغت الجائحة ثلث ذلك النوع قوم كل نوع منها على حدة ثم تجمع القيم فيرجع بما ينوبه.

                                                                                                                                                                                        وقال أصبغ في "كتاب محمد" في الحوائط تكون أصنافا: حائط نخل، وآخر كرم وآخر رمان، أو تكون مختلطة في حائط واحد فإن الأصناف كلها تقوم فإن كانت الجائحة ثلث جملة القيمة وضع عن المشتري، ولا ينظر إلى شيء من الثمرة، وقيل: ينظر إلى الصنف الذي أصابته الجائحة، فإن كان مبلغ ذلك الصنف دون ثلث الجميع لم توضع وإن أصيب جميعها، وإن كان ذلك الصنف الثلث فأكثر وضعت جائحته إن كانت ثلثه خاصة.

                                                                                                                                                                                        وهذا [ ص: 4759 ] ضعيف، وقد يكون الحائط ستة أصناف متقاربة القدر فكان كل واحد منها مقصود في نفسه وليس شيء منها تبعا ولا غير مقصود، وقول ابن حبيب أحسن.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية