الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في الدعاوى والأيمان

                                                                                                                                                                                        ومن ادعى قبل رجل دعوى فأنكره، لم يحلفه لمجرد الدعوى، إلا بما ينضاف إليها من خلطة أو شبهة أو دليل، وذلك يختلف باختلاف المدعى فيه.

                                                                                                                                                                                        فأما الدين فاختلف فيه، هل المدعى فيما يوجب اليمين الخلطة، أو دعوى الشبهة؟ وأما بياعات النقود والدعوى في المعاملات، والصناعات والودائع والغصب والتعدي والجراح، فالمراعى فيها دعوى الشبهة.

                                                                                                                                                                                        واختلف في دعوى القتل، هل يقسم مع الإتيان بما لا يشبه؟ مثل [ ص: 5478 ] أن يرمي به رجلا صالحا، أو ادعى القتل على من لا يشبه.

                                                                                                                                                                                        واختلف في الدين على أربعة أقوال: فقال ابن القاسم -في العتبية-: لا يحلف إلا أن يكون قد بايعه بالنقد مرارا، أو بالدين ولو مرة. يريد أن من داين رجلا مرة، أشبه أن يداينه أخرى، ومن بايع رجلا مرة أشبه أن يداينه أخرى، ومن بايع رجلا بالنقد مرارا، أشبه أن يأمنه ويبايعه إلى أجل.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن حبيب: الخلطة أن تكون بينهما مخالطة، في حق لا يعرفون له انقضاء، فإن انقضى ثم أتى بعد يوم أو يومين يدعي عليه حقا، لم يحلفه بالخلطة التي كانت. وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: من أصحابنا من قال: إنه ينظر إلى الدعوى، فإن كانت مما يجوز أن يدعي مثلها على مثل المدعى عليه أحلف. ومنهم من قال: إذا كان المدعى عليه يشبه أن يعامله هذا المدعي فيما ادعى عليه أحلفه وإلا فلا.

                                                                                                                                                                                        ومنع ابن القاسم اليمين، إلا بعد ثبات المعاملة حماية; لأن الدعوى تسرع من كثير من الناس، والناس يهابون الأيمان مع صدقهم. وأجيز في [ ص: 5479 ] القول الآخر إذا ثبتت الشبهة; لأن كثيرا يداين بغير بينة. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" أخرجه مسلم. فأثبت اليمين من غير مراعاة خلطة.

                                                                                                                                                                                        وأرى إن كانت الدعوى من الرجل الصالح، أو ممن يرى أنه لا يدعي باطلا في الغالب، أن تراعى الشبهة. وإن كان ممن يظن به الدعاوى أن يثبت الخلطة. وتراعى الشبهة من ثلاثة أوجه: من جهة المدعي، والمدعى عليه، والمدعى فيه.

                                                                                                                                                                                        فإن أشبه أن يداين هذا المدعي المدعى عليه بمثل المدعى فيه قدره وجنسه أحلفه، وإن ادعى ما لا يشبه كسبه، أو يشبه كسبه ولا يداين به مثل هذا، أو يداين به مثله في كثرته، ولا يشبه أن يتعامل المدعى عليه إلى أجل لم يحلف.

                                                                                                                                                                                        وقد تكون مداينته مثل المدعى عليه إلى الأيام التي يتقاضى التجار إلى مثلها، فيقول المدعي أخذت مني معاملة إلى سنة، فهذا لا يفعله في الغالب إلا الرجل المحتاج، فإن لم يكن كذلك كان المدعي قد أتى بما لا يشبه.

                                                                                                                                                                                        واختلف بماذا تثبت الخلطة، فقال ابن كنانة -في المجموعة-: بشاهد واحد وامرأة، وقال محمد: إن أقام شاهدا واحدة أحلف معه المدعي وتثبت [ ص: 5480 ] الخلطة، ثم يحلف المدعى عليه. والأول أحسن ; لأن المراد إثبات لطخ الدعوى، وذلك يوجد بالمرأة إذا كانت عدلة، وإذا ثبتت المبايعة ثم انقضت فتجاحدا أو أيمان، لم يقبل دعوى أحدهما على الآخر في مداينة محدثة، إلا ببينة أو إثبات خلطة محدثة; لأن مدعي المداينة بعد المجاحدة أتى بما لا يشبه، فإن ادعى ذلك المجحود أولا قيل له: لا يشبه أن يجحدك فتحلفه أو يحلفك ثم تعامله، وإن كانت الدعوى من الجاحد أولا، قيل له: لا يشبه ذلك؛ لأنك تخشى أن يجحدك، ويتأول إمساك ذلك من حقه.

                                                                                                                                                                                        وقال مالك -في المجموعة فيمن أوصى عند موته، أن له عند فلان كذا-: أحلف المدعى عليه، فإن نكل غرم قال: وليس في مثل هذا خلطة. يريد ما لم يدع ما لا يشبه كسبه، أو فوق ما يداين به مثله مثل هذا، أو تكون بينهما عداوة ومباعدة، فلا يحلف; لأنه أتى بما لا يشبه.

                                                                                                                                                                                        وقال سحنون -في العتبية، في أهل السوق يدعي بعضهم على بعض، لم تكن خلطة حتى يقع البيع بينهما، وكذلك القوم يجتمعون في المسجد للصلاة والأنس، فليس بخلطة توجب اليمين. وقوله في أهل المسجد حسن، إلا على من راعى الشبهة بانفرادها. [ ص: 5481 ]

                                                                                                                                                                                        وأما أهل السوق فهم على ضربين: فمنهم من ليس الشأن أن يستقرض منهم، كالعطارين والخياطين فلا أيمان لهم إلا أن تثبت الخلطة، والشأن في البزازين أن يستقرض بعضهم من بعض فالأيمان بينهم.

                                                                                                                                                                                        وأما السماسرة فلهم أن يحلفوا أهل صناعتهم، أنهم لم يبيعوا ذلك منهم، ويحلفوا من شأنه التجر بمثل ذلك، أو يشبه أن يأتيه به ليبيعه له. وقال ابن القاسم -فيمن ادعى قبل رجل كفالة-: لا يمين له إن لم تكن له خلطة. يريد خلطة صحبة ومؤاخاة ليس مداينة; لأن مجرى الكفالة مجرى الهبة، يسلفه إن أعسر ويقضيه، فيقضى عنه، فقد يعامل الإنسان من لا يسلفه، ويسلف من لا يعامله.

                                                                                                                                                                                        وقد اختلف في دعوى الهبة، فقيل: يحلف المدعى عليه إذا أشبه ذلك؛ لمؤاخاة بينهما. وقيل: لا يمين عليه. وهذا راجع إلى ما تقدم في المداينة، فمن ألزم اليمين فيها بدعوى الشبهة ألزم اليمين ها هنا بمثل ذلك، ومن منع هناك حماية إلا بعد ثبات المعاملة منه ها هنا، وإن أتى بما يشبه. وهو في الهبة أولى بالمنع; لأن المداينة تجري بين الناس ما لا تجري الهبات، فإن كان بين [ ص: 5482 ] الغريم والمدعى عليه الكفالة من المؤاخاة ما يشبه أن يتكفل عنه بمثل ذلك المال، والمدعى عليه الكفالة ممن يخشى منه، ويتوثق منه بالحيل في حين المداينة حلفه، وإن كان موسرا لا يتكفل بمثله، ثم ذهب ماله لم يقبل قول هذا: إني عاملته بكفالة.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية