الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في العبد يقتل حرا ثم يعتقه سيده]

                                                                                                                                                                                        وإن قتل العبد حرا ثم أعتقه سيده فهو على ثلاثة أوجه:

                                                                                                                                                                                        فإن لم يعلم سيده بالجناية كان له أن يسلمه رقيقا للمجني عليه أو يفتديه، وإن علم بالجناية وجهل أن ليس له أن يعتقه إلا بعد حملها حلف على ذلك وكان له أن يسلمه رقيقا أو يفتديه، وإن علم بالجناية وأن ليس له [ ص: 6302 ] أن يعتقه إلا بعد حملها كان فيها قولان، فقيل: عتقه رضا بحمل الجناية، وقيل: ليس برضا.

                                                                                                                                                                                        ويحلف وتختلف صفة أيمانهما فيحلف الأول لقد جهل ذلك، ويحلف هذا أنه لم يرض بحمل الجناية.

                                                                                                                                                                                        ومثله إذا وطئ بعد الجناية فحملت، فإنه ينظر هل جهل جنايتها، أو علم، أو لم يعلم وجه الحكم، أو علم بالوجهين جميعا بالجناية وبالحكم؟

                                                                                                                                                                                        فقال ابن القاسم في المدونة: ذلك رضا منه بحمل الجناية .

                                                                                                                                                                                        وقال محمد: إن كانت الجناية أكثر حلف أنه لم يرض بحملها وكان عليه قيمتها، فإن نكل غرم الدية، وإذا حلف السيد بعد العتق في الوجهين جميعا وافتداه كان رقيقا ، وقيل: يكون حرا.

                                                                                                                                                                                        والأول أحسن; لأن السيد يرد العتق من أصله بحق تقدم، وإذا جاز أن يسلمه رقيقا جاز أن يفتديه لذلك ; لأن عتقه قد كان سقط، فإن كان بيد العبد مال بقدر الجناية أخذ منه وعتق، وكذلك إن وجد من يعينه ويقضي الجناية عنه. [ ص: 6303 ]

                                                                                                                                                                                        ويختلف هل يبتدأ بأخذ ماله أو بتخيير السيد؟ فعلى القول إن السيد يفتديه للرق ، يبتدأ بماله وبمن يعينه، فإن لم يوجد خير السيد واسترقه ، وعلى القول إنه يفتديه للعتق يبتدأ بتخيير السيد.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا لم يكن له مال ولا وجد من يعينه وكان في قيمته فضل على الجناية على ثلاثة أقوال:

                                                                                                                                                                                        فقال في المدونة: يباع منه بقدر الجناية ويعتق الباقي .

                                                                                                                                                                                        وفي كتاب محمد: يعتق جميعه على السيد; لأنه يستكمل عليه ما قابل الجناية .

                                                                                                                                                                                        وقيل: يسلم جميعه لأهل الجناية ولا يعتق منه شيء; لأن الأصل في الجناية ألا يباع إلا بعد حملها. واستخف ابن القاسم البيع وإن لم تحمل الجناية لحرمة العتق . وهو أحسن مثل المدبر يموت سيده وعليه دين وقد جنى المدبر جناية، ويفضل العتق بعد أداء الجناية أنه يباع للدين والجناية، [ ص: 6304 ] وإن لم يضمن العتق الباقي، ولهذا جاز أن ينتزع ماله ويعتق وإن لم يضمن الجناية; ولأنه إنما منع أن يباع قبل حمل الجناية خيفة أن يموت قبل البيع ولا يخشى ذلك في انتزاع المال.

                                                                                                                                                                                        وقوله: "يباع ما قابل الجناية" دليل على أنه لم ير أن يستكمل على المعتق، ولو كان ذلك لاستكمل من غير بيع، وإنما أعتق ذلك القدر من باب لا ضرر ولا ضرار; لأن السيد برئ منه فكان البيع ليعتق الباقي أولى من رقه، كما قيل في الوكيل يشتري من يعتق على الموكل وهو عالم وفيه فضل: أنه يباع منه بقدر الثمن ويعتق الباقي.

                                                                                                                                                                                        واختلف في العبد يجني جناية وفي قيمته فضل عن الجناية، فيقول السيد: يباع للمجني عليه بقدر الجناية، ويكون الفضل لي، فقيل: ليس ذلك له إلا أن يضمن الجناية، وقيل: ذلك له. وهو أحسن ; لأن الجناية معلقة برقبته فيأخذ منها قدر حقه ولا شيء له في الباقي. [ ص: 6305 ]

                                                                                                                                                                                        وقد قال ابن القاسم في المدونة في العبد يبيعه سيده قبل أن يحمل الجناية، قال: أرى إن أعطاه الجناية جاز بيعه، وإن باع ولم يعلم بجنايته كان بالخيار بين أن يدفع الجناية ويمضي بيعه أو يسلمه . فيكون لأولياء الجناية أن يجيزوا البيع ويأخذوا الثمن أو يردوا البيع ويأخذوه. وكذلك إن علم السيد بالجناية وكان ممن يجهل ويظن أن له بيعه وتكون جنايته عليه، وحلف على ذلك.

                                                                                                                                                                                        ويختلف إذا كان عالما هل يكون بيعه رضا بحمل الجناية أم لا؟ قياسا على إذا أعتق وهو عالم بالجناية. وإذا افتدى العبد أو أسلمه فأمضى أولياء الجناية البيع لزم المشتري إن كانت الجناية خطأ، وإن كانت عمدا كان له أن يرد وإن لم يعلم بجنايته إلا أن يكون العبد معاودا لمثل ذلك فيكون له أن يرد .

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا أسلمه السيد و أراد أولياء الجناية نقض البيع وقال المشتري: أنا أدفع لك جنايتك، فقيل: ليس ذلك له. وقيل: له ذلك ويرجع على البائع بالأقل من الثمن أو ما افتكه به . والأول أحسن; لأن البائع برئ منه وأسلمه إلى أولياء الجناية فصار ملكا لهم فلا يباع عليهم إلا برضاهم ولا [ ص: 6306 ] يلزمهم البيع الأول; لأنه تعد، وإذا أجيز ذلك على القول الآخر وكان في الثمن فضل عن الجناية وقف، فإن رجع السيد أو المجني عليه إلى إجازة البيع أخذوه ; لأن المشتري لا حق له فيه. [ ص: 6307 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية