الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في العاقلة، ومن تكون؟ ومن يحمل منها الدية]

                                                                                                                                                                                        وعاقلة الرجل قومه وعشيرته قلت: يبتدئ بأقرب قومه كالبطن، إن كان فيهم محمل لسعتهم وإلا فالفخذ وإن لم يكن فالقبيل فإن لم يكن فأقرب القبائل إليهم وقال مالك: إنما جعل العقل على القبائل أهل ديوان كانوا أو غيرهم، وأهل مصر لا يعقلون مع أهل الشام، وأهل الشام لا يعقلون مع أهل مصر -يريد: لأنهما كورتان- وإذا جنى رجل شامي بمصر جناية كان عقل [ ص: 6416 ] جنايته على قومه الذين بالشام إلا أن يكون سكن مصر وأوطنها فيكون كأحدهم يعقل عنهم ويعقلون عنه، وإذا لم يكن في قوم الجاني من يحمل العقل لقلتهم ضم إليهم أقرب القبائل منهم، فإن لم يكن فيهم من يحمل العقل ضم إليهم أيضا أقرب القبائل إليهم منهم حتى يكون فيهم من يحمل ذلك، ويحمل الغني بقدره، ومن دونه بقدره وإنما ذلك على قدر طاقة الناس في يسرهم، وقد كان يحمل على الناس في أعطياتهم من كل مائة درهم، درهم ونصف وأهل البدو لا يحملون مع أهل الحضر، وأهل الحضر لا يحملون مع أهل البدو، وقاله ابن القاسم لأنه لا يستقيم أن يكون في دية الواحد إبل ودنانير أو إبل ودراهم أو دراهم ودنانير.

                                                                                                                                                                                        واختلف في هذه الجملة في أربعة مواضع:

                                                                                                                                                                                        أحدها: إذا كان قوم أهل ديوان هل يعقلون دون القبيل أم لا؟

                                                                                                                                                                                        والثاني: هل تراعى الكورة فيجتمعون في الأداء، أو يجزئ في ذلك المصر الكبير ولا يجمع إليهم غيرهم؟. [ ص: 6417 ]

                                                                                                                                                                                        والثالث: هل يجمع أهل الحضر، وأهل البادية في دية واحدة؟.

                                                                                                                                                                                        والرابع: من لا عاقلة له هل تسقط جنايته لعدم من يحملها، أو تكون في ماله أو في بيت المال، أو يكون عليه قدر ما ينوبه مع العاقلة، ويسقط الزائد، أو يكون في بيت المال؟ فقال مالك في كتاب محمد: يؤخذ من الجاني في ديوانه ، وإن كانوا غير قومه من كل مائة درهم درهم ونصف، قيل له: أفترى أن يعينهم قوم الجارح ممن ليس معه في ديوان؟ قال: ما يفعلون ذلك .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم وأشهب: ذلك على أهل الديوان إذا كان الديوان قائما . ولا ينظر إلى قوم الجارح، وأما قول ابن القاسم في أهل مصر وأهل الشام، فإنه أراد بذلك الكورة ومصر من أسوان إلى الإسكندرية.

                                                                                                                                                                                        وقال سحنون في إفريقية: يضم عقل إفريقية بعضهم إلى بعض من أطرابلس إلى طنجة .

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب في كتاب محمد فيمن وجبت عليه دية وهو من أهل الفسطاط: لا يدخل في ذلك جميع عمل مصر، وذلك على من هو بالفسطاط، [ ص: 6418 ] فإن لم يكن في قبيل القاتل من يحمل ضم إليهم أقرب القبائل إليهم ممن بالفسطاط خاصة .

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب أيضا: إذا اجتمعت البادية والقرار من بلد واحد -يريد من عمل واحد- أخرج أهل البادية ما يلزمهم إبلا، وإن كان الجارح من غيرهم، ويخرج أهل القرار حصتهم عينا، وإن كان الجارح من غيرهم وتؤخذ الإبل بقيمتها إلا أن يشاء ذلك البدوي .

                                                                                                                                                                                        وقال في كتاب ابن سحنون: إن كانوا متناصفين حمل كل فريق من ذلك ما هم أهله، وإن كان أحدهم تبعا فإن الأقل تبع للأكثر .

                                                                                                                                                                                        قال في المجموعة: إن كان أهل العمود أكثر كانت الدية إبلا، ويؤدي معهم أهل القرى إبلا، وإن كان أهل القرى أكثر كانت الدية عينا، ويؤدي أهل العمود ما يلزمهم عينا .

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ - رضي الله عنه -: القول إنها تكون على أهل الديوان ضعيف، وإنما يراعى [ ص: 6419 ] قبيل القاتل وهم عاقلته; لأن لهم شبهة في القيام بالدم لو كان القتيل منهم وشبهة الميراث، ويبتدأ بأقرب قومه كالبطن، فإن لم يكن فيهم محمل لقلتهم أو لعسرهم وإلا فالفخذ، فإن لم يكن فالقبيل، فإن لم يكن فالعشيرة، ولا خلاف أنها على القبيل إذا لم يكن ديوان، فإن كان القاتل من المصر العظيم فيبتدأ بهذه الصفة فيهم ، فإن لم يكن فيهم محمل فمن كان خارجا من ذلك المصر.

                                                                                                                                                                                        وإذا اختلفت أكسابهم ما بين إبل ودنانير ودراهم جمع بعضهم إلى بعض; لأن الأصل معونة هذا القبيل من هذا العمل بعضهم لبعض ، فليس مخالفة كسبه يسقط عنه معونته، وقد وافق عبد الملك بن الماجشون أشهب على هذا أنهم يجتمعون في الأداء.

                                                                                                                                                                                        وأما قول أشهب: إن القليل تبع للكثير . فهو أحد الأقوال في الأتباع أنها لا تراعى في أنفسها والقول: إنها مراعاة في أنفسها أحسن، ويؤدي كل قوم من كسبهم.

                                                                                                                                                                                        واختلف في الجاني هل يدخل مع العاقلة، فقال مالك في كتاب محمد: [ ص: 6420 ]

                                                                                                                                                                                        يدخل معهم، وقيل لا يدخل معهم . والأول أصوب; لأنها جريرة، فلا يسقط عنه الغرم فيها.

                                                                                                                                                                                        ويختلف إذا لم تكن له عاقلة، فعلى القول إنه لا يدخل مع العاقلة فتسقط الجناية عنه، ويختلف على القول إنه يدخل مع العاقلة ، هل تعود عليه لعدم من يعينه فيها; لأن الأصل أن جريرة كل إنسان عليه، فإذا عدم من يحملها عنه عادت عليه، كما قال، إذا أقر بالقتل فلم يقبل إقراره أنها تعود عليه، وقيل: تكون على بيت المال; لأنهم يرثونه لو مات عن مال، فإن لم يكن بيت مال أو لا يستطاع التناول منه بقيت جريرته عليه.

                                                                                                                                                                                        وأما النصراني فقال مالك في المدونة: يحمل ذلك أهل جزيته وهم أهل كورته، الذين خراجه معهم ، وقال في كتاب محمد: إن كان من أهل الصلح، فالعقل على أهل ذلك الصلح ، وإن كانوا أهل عنوة، فالعقل على من جمعهم وإياهم ما وضع عليهم من تلك الجريرة ، فإن لم يكن في قريته [ ص: 6421 ] غيره ، ضم بعض ذلك إلى بعض حتى يقووا على حمل ذلك.

                                                                                                                                                                                        وقال المغيرة: إن كانوا أهل صلح فعليهم، وإن اختلفت قبائلهم، وإن كانوا أهل جزية، ولم تكن عنوة، حمل ذلك الجاني في ماله . وقال سحنون في كتاب ابنه: يسلفهم ذلك الإمام من بيت المال . يريد: ويرجع عليهم.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية