وقد كره السلف خيفة أن يشتريه ظالم فهذا ورع فوق الأول ، والكراهية فيه أخف ويليه ما هو مبالغة ، ويكاد يلتحق بالوسواس ، وهو قول جماعة أنه لا تجوز معاملة الفلاحين بآلات الحارث لأنهم يستعينون بها على الحراثة ويبيعون الطعام من الظلمة ولا يباع منهم البقر والفدان وآلات الحرث وهذا ورع الوسوسة إذ ينجر إلى أن لا يباع من الفلاح طعام ; لأنه يتقوى به على الحراثة ولا يسقى من الماء العام لذلك وينتهي هذا حد التنطع المنهي عنه وكل متوجه إلى شيء على قصد خير لا بد وأن يسرف إن لم يذمه العلم المحقق وربما يقدم على ما يكون بدعة في الدين ليستضر الناس بعده بها وهو يظن أنه مشغول بالخير ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : بيع السيف في وقت الفتنة والمتنطعون هم الذين يخشى عليهم أن يكونوا ممن قيل فيهم فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وبالجملة فإنه إذا جاوز ما رسم وتصرف بذهنه من غير سماع كان ما يفسده أكثر مما يصلحه ، وقد روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه أحرق كرمه خوفا من أن يباع العنب ممن يتخذه خمرا ، وهذا لا أعرف له وجها إن لم يعرف هو سببا خاصا يوجب الإحراق إذا ما أحرق كرمه ونخله من كان أرفع قدرا منه من الصحابة . لا ينبغي للإنسان أن يشتغل بدقائق الورع إلا بحضرة عالم متقن
ولو جاز هذا لجاز قطع الذكر خيفة من الزنا وقطع اللسان خيفة من الكذب ، إلى غير ذلك من الإتلافات .
وأما المقدمات فلتطرق المعصية إليها ثلاث درجات : الدرجة العليا التي يشتد الكراهة فيها ما بقي أثره في المتناول كالأكل من أو رعت في مرعى حرام فإن ذلك معصية ، وقد كان سببا لبقائها وربما يكون الباقي من دمها ولحمها وأجزائها من ذلك العلف وهذا الورع مهم وإن لم يكن واجبا ونقل ذلك عن جماعة من السلف . شاة علفت بعلف مغصوب
وكان لأبي عبد الله الطوسي التروغندي شاة يحملها على رقبته كل يوم إلى الصحراء ويرعاها وهو يصلي ، وكان يأكل من لبنها فغفل عنها ساعة فتناولت من ورق كرم على طرف بستان فتركها في البستان ولم يستحل أخذها .
فإن قيل فقد روي عن عبد الله بن عمر وعبيد الله أنهما اشتريا إبلا فبعثاها إلى الحمى فرعته إبلهما حتى سمنت ، فقال رضي الله عنه أرعيتماها في الحمى فقالا: نعم فشاطرهما . عمر
وهذا يدل على أنه رأى اللحم الحاصل من العلف لصاحب العلف ، فليوجب هذا تحريما .
قلنا : ليس كذلك ، فإن العلف يفسد بالأكل واللحم خلق جديد ، وليس عين العلف ، فلا شركة لصاحب العلف شرعا ولكن عمر غرمهما قيمة الكلأ ورأى ذلك مثل شطر الإبل ، فأخذ الشطر بالاجتهاد كما شاطر ماله لما أن قدم من سعد بن أبي وقاص الكوفة وكذلك شاطر رضي الله عنه إذ رأى أن كل ذلك لا يستحقه العامل ، ورأى شطر ذلك كافيا على حق عملهم وقدره ، بالشطر اجتهادا . أبا هريرة
الرتبة ، الوسطى ما نقل عن بشر بن الحارث من امتناعه عن لأن النهر موصل إليه ، وقد عصى الله بحفره . الماء المساق في نهر احتفره الظلمة
وامتنع آخر عن عنب كرم يسقى بماء يجري في نهر حفر ظلما وهو أرفع منه وأبلغ في الورع .
وامتنع آخر من الشرب من مصانع السلاطين في الطرق .
وأعلى من ذلك امتناع من طعام حلال أوصل إليه على يد سجان وقوله إنه جاءني على يد ظالم ودرجات هذه الرتب لا تنحصر . ذي النون
الرتبة الثالثة ، وهي قريب من الوسواس والمبالغة أن يمتنع من حلال وصل على يد رجل عصى الله بالزنا أو القذف وليس هو كما لو عصى بأكل الحرام ، فإن الموصل قوته الحاصلة من الغذاء الحرام والزنا والقذف لا يوجب قوة يستعان بها على الحمل بل وسواس بخلاف أكل الحرام إذ الكفر لا يتعلق بحمل الطعام وينجر هذا إلى أن لا يؤخذ من يد من عصى الله ولو بغيبة أو كذبة وهو غاية التنطع والإسراف فليضبط ما عرف من ورع الامتناع من أخذ حلال وصل على يد كافر ذي النون وبشر بالمعصية في السبب الموصل كالنهر ، وقوة اليد المستفادة بالغذاء الحرام .