بيان حد السخاء والبخل وحقيقتهما .
لعلك تقول : قد عرف بشواهد الشرع أن البخل من المهلكات ، ولكن ما حد البخل ? وبماذا يصير الإنسان بخيلا ? وما من إنسان إلا وهو يرى نفسه سخيا ، وربما يراه غيره بخيلا ، وقد يصدر فعل من إنسان فيختلف فيه الناس ، فيقول قوم : هذا بخل ، ويقول آخرون : ليس هذا من البخل .
وما من إنسان إلا ويجد من نفسه حبا للمال ولأجله يحفظ المال ويمسكه ، فإن كان يصير بإمساك المال بخيلا ، فإذا لا ينفك أحد عن البخل .
وإذا كان الإمساك مطلقا لا يوجب البخل ، ولا معنى للبخل إلا الإمساك ، فما البخل الذي يوجب الهلاك وما فنقول : قد قال قائلون : حد السخاء الذي يستحق به العبد صفة السخاوة ، وثوابها ؟ منع الواجب فكل من أدى ما يجب عليه فليس ببخيل ، وهذا غير كاف فإن من يرد اللحم مثلا إلى القصاب ، والخبز للخباز بنقصان حبة ، أو نصف حبة فإنه يعد بخيلا بالاتفاق . حد البخل
وكذلك من يسلم إلى عياله القدر الذي يفرضه القاضي ، ثم يضايقهم في لقمة ازدادوها عليه ، أو تمرة أكلوها من ماله يعد بخيلا .
ومن كان بين يديه رغيف ، فحضر من يظن أنه يأكل معه فأخفاه عنه عد بخيلا .
وقال قائلون : البخيل هو الذي يستصعب العطية وهو أيضا قاصر فإنه إن أريد به أنه يستصعب كل عطية ، فكم من بخيل لا يستصعب العطية القليلة كالحبة ، وما يقرب منها ، ويستصعب ما فوق ذلك ، وإن أريد به أنه يستصعب بعض العطايا فما من جواد إلا وقد يستصعب بعض العطايا ، وهو ما يستغرق جميع ماله ، أو المال العظيم .
فهذا لا يوجب الحكم بالبخل .
وكذلك تكلموا في الجود فقيل : الجود عطاء بلا من ، وإسعاف من غير رؤية .
وقيل : على رؤية التقليل . الجود عطاء من غير مسألة
وقيل : الجود السرور بالسائل ، والفرح بالعطاء لما أمكن .
وقيل : الجود عطاء على رؤية أن المال لله تعالى ، والعبد لله عز وجل فيعطي ، عبد الله مال الله على غير رؤية الفقر .
وقيل من : أعطى البعض وأبقى البعض ، فهو صاحب سخاء ، ومن بذل الأكثر ، وأبقى لنفسه شيئا ، فهو صاحب جود ، ومن قاسى الضر ، وآثر غيره بالبلغة ، فهو صاحب إيثار ، ومن لم يبذل شيئا ، فهو صاحب بخل .
وجملة هذه الكلمات غير محيطة بحقيقة الجود والبخل ، بل نقول : المال خلق لحكمة ومقصود ، وهو صلاحه لحاجات الخلق ، ويمكن إمساكه عن الصرف إلى ما خلق للصرف إليه ، ويمكن بذله بالصرف إلى ما لا يحسن الصرف إليه ، ويمكن التصرف فيه بالعدل ، وهو أن يحفظ حيث يجب الحفظ ، ويبذل حيث يجب البذل .
فالإمساك حيث يجب البذل بخل ، والبذل حيث يجب الإمساك تبذير .
وبينهما وسط ، وهو المحمود وينبغي أن يكون السخاء والجود عبارة عنه ; إذ لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالسخاء ، وقد قيل له : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط وقال تعالى : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ، فالجود وسط بين الإسراف والإقتار ، وبين البسط والقبض ، وهو أن يقدر بذله وإمساكه بقدر الواجب ، ولا يكفي أن يفعل ذلك بجوارحه ما لم يكن قلبه طيبا به غير منازع له فيه .
فإن بذل في محل وجوب البذل ، ونفسه تنازعه ، وهو يصابرها ، فهو متسخ وليس بسخي بل ينبغي أن لا يكون لقلبه علاقة مع المال إلا من حيث يراد المال له ، وهو صرفه إلى ما يجب صرفه إليه .
فإن قلت : فقد صار هذا موقوفا على معرفة الواجب ، فما الذي يجب بذله .
؟ فأقول إن : الواجب قسمان : واجب بالشرع ، وواجب بالمروءة والعادة .
والسخي هو الذي لا يمنع واجب الشرع ، ولا واجب المروءة ، فإن منع واحدا منهما ، فهو بخيل ، ولكن الذي يمنع واجب الشرع أبخل كالذي يمنع أداء الزكاة ويمنع عياله وأهله النفقة أو يؤديها ولكنه يشق عليه فإنه بخيل بالطبع ، وإنما يتسخى بالتكلف أو الذي يتيمم الخبيث من ماله ولا يطيب قلبه أن يعطي من أطيب ماله ، أو من وسطه فهذا كله بخل .
وأما واجب المروءة ، فهو ترك المضايقة ، والاستقصاء في المحقرات فإن ذلك مستقبح واستقباح ذلك يختلف بالأحوال والأشخاص .
فمن كثر ماله استقبح منه ما لا يستقبح من الفقير من المضايقة ويستقبح من الرجل المضايقة مع أهله ، وأقاربه ، ومماليكه ما لا يستقبح مع الأجانب ، ويستقبح من الجار ما لا يستقبح مع البعيد ، ويستقبح في الضيافة من المضايقة ما لا يستقبح في المعاملة فيختلف ذلك بما فيه من المضايقة في ضيافة ، أو معاملة ، وبما به المضايقة من طعام ، أو ثوب ; إذ يستقبح في الأطعمة ما لا يستقبح في غيرها ، ويستقبح في شراء الكفن مثلا ، أو شراء الأضحية أو شراء خبز الصدقة ما لا يستقبح في غيره من المضايقة .
وكذلك بمن معه المضايقة من صديق ، أو أخ ، أو قريب ، أو زوجة أو ولد ، أو أجنبي .
وبمن منه المضايقة من صبي ، أو امرأة ، أو شيخ ، أو شاب ، أو عالم ، أو جاهل ، أو موسر أو فقير .
فالبخيل هو الذي يمنع حيث ينبغي أن لا يمنع إما بحكم الشرع وإما بحكم المروءة وذلك لا يمكن التنصيص على مقداره .