فإذن : ما يفسده العابد بإضمار الكبر ، واحتقار الخلق ، والنظر إليهم بعين الاستصغار أكثر مما يصلحه بظاهر الأعمال .
فهذه معارف بها يزال داء الكبر عن القلب لا غير ، إلا أن النفس بعد هذه المعرفة قد تضمر التواضع وتدعي البراءة من الكبر وهي كاذبة فإذا وقعت الواقعة عادت إلى طبعها ، ونسيت وعدها فعلى ، هذا لا ينبغي أن يكتفى في المداواة بمجرد المعرفة ، بل ينبغي أن تكمل بالعمل ، وتجرب بأفعال المتواضعين في مواقع هيجان الكبر في النفس .
وبيانه أن يمتحن النفس بخمس امتحانان ، هي أدلة على استخراج ما في الباطن ، وإن كانت الامتحانات كثيرة .
الامتحان الأول : أن يناظر في مسألة مع واحد من أقرانه ، فإن ظهر شيء من الحق على لسان صاحبه ، فثقل عليه قبوله ، والانقياد له ، والاعتراف به ، والشكر له على تنبيهه وتعريفه وإخراجه الحق ، فذلك يدل على أن فيه كبرا دفينا ، فليتق الله فيه ، ويشتغل بعلاجه .
أما من حيث العلم فبأن يذكر نفسه خسة نفسه ، وخطر عاقبته ، وأن الكبر لا يليق إلا بالله تعالى .
وأما العمل : فبأن يكلف نفسه ما ثقل عليه من الاعتراف بالحق وأن يطلق اللسان ، بالحمد والثناء ويقر على نفسه بالعجز ، ويشكره على الاستفادة ويقول : ما أحسن ما فطنت له ، وقد كنت غافلا عنه ، فجزاك الله خيرا كما نبهتني له ! فالحكمة ضالة المؤمن ، فإذا وجدها ينبغي أن يشكر من دله عليها .
فإذا واظب على ذلك مرات متوالية صار ذلك له طبعا وسقط ثقل الحق عن قلبه ، وطاب له قبوله ، ومهما ثقل عليه الثناء على أقرانه بما فيهم ففيه كبر ، فإن كان ذلك لا يثقل عليه في الخلوة ويثقل عليه في الملأ فليس فيه كبر ، وإنما فيه رياء فليعالج ، الرياء بما ذكرناه من قطع الطمع عن الناس ويذكر القلب بأن منفعته في كماله في ذاته وعند الله لا عند الخلق ، إلى غير ذلك من أدوية الرياء .
وإن ثقل عليه في الخلوة والملأ جميعا ففيه الكبر والرياء جميعا ، ولا ينفعه الخلاص من أحدهما ما لم يتخلص من الثاني .
فليعالج كلا الداءين ؛ فإنهما جميعا مهلكان .
الامتحان الثاني : أن يجتمع مع الأقران والأمثال في المحافل ويقدمهم على نفسه ، ويمشي خلفهم ، ويجلس في الصدور تحتهم ، فإن ثقل عليه ذلك فهو متكبر ، فليواظب عليه تكلفا ؛ حتى يسقط عنه ثقله فبذلك يزايله الكبر ، وههنا للشيطان مكيدة وهو أن يجلس في صف النعال أو يجعل بينه وبين الأقران بعض الأرذال فيظن أن ذلك تواضع وهو عين الكبر ؛ فإن ذلك يخف على صدور المتكبرين إذ يوهمون أنهم تركوا مكانهم بالاستحقاق والتفضل ، فيكون قد تكبر وتكبر بإظهار التواضع أيضا بل ينبغي أن يقدم أقرانه ويجلس بينهم بجنبهم ، ولا ينحط عنهم إلى صف النعال ، فذلك هو الذي يخرج خبث الكبر من الباطن .
الامتحان الثالث : أن فإن ثقل ذلك عليه فهو كبر ؛ فإن هذه الأفعال من مكارم الأخلاق والثواب عليها جزيل ، فنفور النفس عنها ليس إلا لخبث في الباطن ، فليشتغل بإزالته بالمواظبة عليه ، مع تذكر جميع ما ذكرناه من المعارف التي تزيل داء الكبر . يجيب دعوة الفقير ويمر إلى السوق في حاجة الرفقاء والأقارب
الامتحان الرابع : أن يحمل حاجة نفسه وحاجة أهله ورفقائه من السوق إلى البيت ، فإن أبت نفسه ذلك فهو كبر أو رياء ، فإن كان يثقل ذلك عليه مع خلو الطريق فهو كبر ، وإن كان لا يثقل عليه إلا مع مشاهدة الناس فهو رياء ، وكل ذلك من أمراض القلب وعلله المهلكة له إن لم تتدارك وقد أهمل الناس طب القلوب واشتغلوا بطب الأجساد مع أن الأجساد قد كتب عليها الموت لا محالة والقلوب لا تدرك السعادة إلا بسلامتها إذ قال تعالى : إلا من أتى الله بقلب سليم ويروى عن عبد الله بن سلام أنه حمل حزمة حطب فقيل له : يا أبا يوسف قد كان في غلمانك وبنتك ما يكفيك قال : أجل ، ولكن أردت أن أجرب نفسي هل تنكر ذلك فلم يقنع منها بما أعطته من العزم على ترك الأنفة حتى جربها أهي صادقة أم كاذبة ، وفي الخبر : « من حمل الفاكهة أو الشيء فقد برئ من الكبر» .
الامتحان الخامس: أن يلبث ثيابا بذلة فإن نفور النفس عن ذلك في الملأ رياء، وفي الخلوة كبر، وكان رضي الله عنه له مسح يلبسه بالليل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: عمر بن عبد العزيز . « من اعتقل البعير ، ولبس الصوف فقد برئ من الكبر »
وقال صلى الله عليه وسلم : « إنما أنا عبد ، آكل بالأرض ، وألبس الصوف وأعقل ، البعير ، وألعق أصابعي ، وأجيب دعوة المملوك ، فمن رغب عن سنتي فليس مني .
وروي أن قيل له : إن أقواما يتخلفون عن الجمعة بسبب ثيابهم فلبس عباءة فصلى فيها بالناس . أبا موسى الأشعري
وهذه فما يختص بالملأ فهو الرياء ، وما يكون في الخلوة فهو الكبر ، فاعرف فإن من لا يعرف الشر لا يتقيه ، ومن لا يدرك المرض لا يداويه . مواضع يجتمع فيها الرياء والكبر ،