الصدق السادس : وهو أعلى الدرجات وأعزها ، كالصدق في الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب ، وسائر هذه الأمور . الصدق في مقامات الدين ،
فإن هذه الأمور لها مباد ينطلق الاسم بظهورها ، ثم لها غايات وحقائق والصادق المحقق من نال حقيقتها ، وإذا غلب الشيء وتمت حقيقته سمي صاحبه صادقا فيه كما يقال : فلان صدق القتال .
ويقال : هذا هو الخوف الصادق ، وهذه هي الشهوة الصادقة .
وقال الله تعالى : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا إلى قوله : أولئك هم الصادقون وقال تعالى : ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر إلى قوله : أولئك الذين صدقوا وسئل عن الإيمان فقرأ هذه الآية ، فقيل له : سألناك عن الإيمان ، فقال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقرأ هذه الآية . أبو ذر
ولنضرب للخوف مثلا ، فما من عبد يؤمن بالله واليوم الآخر إلا وهو خائف من الله خوفا ينطلق عليه الاسم .
ولكنه خوف غير صادق ، أي : غير بالغ درجة الحقيقة ، أما تراه إذا خاف سلطانا أو قاطع طريق في سفره كيف يصفر لونه وترتعد فرائصه ، ويتنغص عليه عيشه ، ويتعذر عليه أكله ونومه ، وينقسم عليه فكره حتى لا ينتفع به أهله وولده ، وقد ينزعج عن الوطن ، فيستبدل بالأنس الوحشة ، وبالراحة التعب والمشقة والتعرض للأخطار كل ذلك خوفا من درك المحذور .
ثم إنه يخاف النار ، ولا يظهر عليه شيء من ذلك عند جريان معصية عليه ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : تقدم فالتحقيق في هذه الأمور عزيز جدا ، ولا غاية لهذه المقامات حتى ينال تمامها ، ولكن لكل عبد منه حظ بحسب حاله ، إما ضعيف وإما قوي ، فإذا قوي سمي صادقا فيه . " لم أر مثل النار نام هاربها ، ولا مثل الجنة نام طالبها
فمعرفة الله تعالى وتعظيمه والخوف منه لا نهاية لها ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام أحب أن أراك في صورتك التي هي صورتك فقال لا تطيق ذلك ، قال بلى بل أرني فواعده البقيع في ليلة مقمرة ، فأتاه ، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو به قد سد الأفق ، يعني جوانب السماء ، فوقع النبي صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه ، فأفاق وقد عاد جبريل لصورته الأولى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما ظننت أن أحدا من خلق الله هكذا ، قال : وكيف لو رأيت إسرافيل ؟! إن العرش لعلى كاهله ، وإن رجليه قد مرقتا تحت تخوم الأرض السفلى ، وإنه ليتصاغر من عظمة الله حتى يصير كالوصع يعني كالعصفور الصغير فانظر ما الذي يغشاه من العظمة والهيبة حتى يرجع إلى ذلك الحد ، وسائر الملائكة ليسوا كذلك ؛ لتفاوتهم في المعرفة ، فهذا هو الصدق في التعظيم .
وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مررت ليلة أسري بي جابر وجبريل بالملأ الأعلى كالحلس البالي من خشية الله تعالى ، يعني الكساء الذي يلقى على ظهر البعير وكذلك الصحابة كانوا خائفين وما كانوا بلغوا خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك قال لن تبلغ حقيقة الإيمان حتى تنظر الناس كلهم حمقى في دين الله . ابن عمر رضي الله عنهما
وقال مطرف ما من الناس أحد إلا وهو أحمق فيما بينه وبين ربه ، إلا أن بعض الحمق أهون من بعض وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى ينظر إلى الناس كالأباعر في جنب الله ، ثم يرجع إلى نفسه فيجدها أحقر حقير " .