( فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ( 50 ) قال قائل منهم إني كان لي قرين ( 51 ) يقول أئنك لمن المصدقين ( 52 ) أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون ( 53 ) قال هل أنتم مطلعون ( 54 ) فاطلع فرآه في سواء الجحيم ( 55 ) قال تالله إن كدت لتردين ( 56 ) ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين ( 57 ) أفما نحن بميتين ( 58 ) إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين ( 59 ) إن هذا لهو الفوز العظيم ( 60 ) لمثل هذا فليعمل العاملون ( 61 ) ) .
يخبر تعالى عن أهل الجنة أنه أقبل بعضهم على بعض يتساءلون ، أي : عن أحوالهم ، وكيف كانوا في الدنيا ، وماذا كانوا يعانون فيها ؟ وذلك من حديثهم على شرابهم ، واجتماعهم في تنادمهم وعشرتهم في مجالسهم ، وهم جلوس على السرر ، والخدم بين أيديهم ، يسعون ويجيئون بكل خير عظيم ، من مآكل ومشارب وملابس ، وغير ذلك مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . ( قال قائل منهم إني كان لي قرين ) قال مجاهد : يعني شيطانا .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : هو الرجل المشرك ، يكون له صاحب من أهل الإيمان في الدنيا .
ولا تنافي بين كلام مجاهد ، ; فإن وابن عباس ، وكلاهما متعاديان ، قال الله تعالى : ( الشيطان يكون من الجن فيوسوس في النفس ، ويكون من الإنس فيقول كلاما تسمعه الأذنان يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) [ الأنعام : 112 ] وكل منهما يوسوس ، كما قال تعالى : ( [ قل أعوذ برب الناس . ملك الناس . إله الناس ] . من شر الوسواس الخناس . الذي يوسوس في صدور الناس . من الجنة والناس ) [ سورة الناس ] . ولهذا ( قال قائل منهم إني كان لي قرين . يقول أئنك لمن المصدقين ) أي : أأنت تصدق بالبعث والنشور والحساب والجزاء ؟ ! يعني : يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب والاستبعاد ، والكفر والعناد . ( أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون ) قال مجاهد ، : لمحاسبون ؟ وقال والسدي ابن عباس ، : لمجزيون بأعمالنا ؟ . ومحمد بن كعب القرظي
[ ص: 16 ]
قال : ( قال هل أنتم مطلعون ) أي : مشرفون . يقول المؤمن لأصحابه وجلسائه من أهل الجنة . ( فاطلع فرآه في سواء الجحيم ) قال ابن عباس ، ، وسعيد بن جبير وخليد العصري وقتادة ، ، والسدي [ وغيرهم ] يعني في وسط الجحيم . وعطاء الخراساني
وقال : في وسط الجحيم كأنه شهاب يتقد . الحسن البصري
وقال قتادة : ذكر لنا أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي . وذكر لنا أن كعب الأحبار قال : في الجنة كوى إذا أراد أحد من أهلها أن ينظر إلى عدوه في النار اطلع فيها ، فازداد شكرا .
( قال تالله إن كدت لتردين ) يقول المؤمن مخاطبا للكافر : والله إن كدت لتهلكني لو أطعتك . ( ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين ) أي : ولولا فضل الله علي لكنت مثلك في سواء الجحيم حيث أنت ، محضر معك في العذاب ، ولكنه تفضل [ علي ] ورحمني فهداني للإيمان ، وأرشدني إلى توحيده ( وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) [ الأعراف : 43 ] .
وقوله : ( أفما نحن بميتين . إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين ) هذا من كلام المؤمن مغبطا نفسه بما أعطاه الله من الخلد في الجنة والإقامة في دار الكرامة ، لا موت فيها ولا عذاب ; ولهذا قال : ( إن هذا لهو الفوز العظيم )
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الظهراني ، حدثنا حفص بن عمر العدني ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة قال : قال ابن عباس رضي الله عنهما ، في قول الله تبارك وتعالى لأهل الجنة : ( كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون ) [ الطور : 19 ] ، قال ابن عباس ، رضي الله عنهما : قوله : ( هنيئا ) أي : لا يموتون فيها . فعندها قالوا : ( أفما نحن بميتين . إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين )
وقال : علموا أن كل نعيم فإن الموت يقطعه ، فقالوا : ( الحسن البصري أفما نحن بميتين . إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين ) ، قيل [ لهم ] : لا . قالوا : ( إن هذا لهو الفوز العظيم )
وقوله : ( لمثل هذا فليعمل العاملون ) قال قتادة : هذا من كلام أهل الجنة .
وقال ابن جرير : هو من كلام الله تعالى ، ومعناه : لمثل هذا النعيم وهذا الفوز فليعمل العاملون في الدنيا ، ليصيروا إليه في الآخرة .
وقد ذكروا قصة رجلين كانا شريكين في بني إسرائيل ، تدخل في ضمن عموم هذه الآية الكريمة .
قال أبو جعفر بن جرير : حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن فرات بن ثعلبة البهراني في قوله : ( إني كان لي قرين ) قال : إن رجلين كانا [ ص: 17 ] شريكين ، فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار ، وكان أحدهما له حرفة ، والآخر ليس له حرفة ، فقال الذي له حرفة للآخر : ليس عندك حرفة ، ما أراني إلا مفارقك ومقاسمك ، فقاسمه وفارقه ، ثم إن الرجل اشترى دارا بألف دينار كانت لملك ، مات ، فدعا صاحبه فأراه فقال : كيف ترى هذه الدار ؟ ابتعتها بألف دينار ؟ قال : ما أحسنها ! فلما خرج قال : اللهم إن صاحبي ابتاع هذه الدار بألف دينار ، وإني أسألك دارا من دور الجنة ، فتصدق بألف دينار ، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ، ثم إنه تزوج بامرأة بألف دينار ، فدعاه وصنع له طعاما . فلما أتاه قال : إني تزوجت امرأة بألف دينار . قال : ما أحسن هذا ! فلما انصرف قال : يا رب ، إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار ، وإني أسألك امرأة من الحور العين . فتصدق بألف دينار ، ثم إنه مكث ما شاء الله أن يمكث . ثم اشترى بستانين بألفي دينار ، ثم دعاه فأراه فقال : إني ابتعت هذين البستانين . فقال : ما أحسن هذا ! فلما خرج قال : يا رب ، إن صاحبي قد اشترى بستانين بألفي دينار ، وأنا أسألك بستانين في الجنة . فتصدق بألفي دينار ، ثم إن الملك أتاهما فتوفاهما ، ثم انطلق بهذا المتصدق ، فأدخله دارا تعجبه ، وإذا امرأة تطلع يضيء ما تحتها من حسنها ، ثم أدخله بستانين وشيئا الله به عليم ، فقال عند ذلك : ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا . قال : فإنه ذاك ، ولك هذا المنزل والبستانان والمرأة . قال : فإنه كان لي صاحب يقول : أئنك لمن المصدقين ؟ قيل له : فإنه في الجحيم . قال : هل أنتم مطلعون ؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم . فقال عند ذلك : ( تالله إن كدت لتردين . ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين ) الآيات .
قال ابن جرير : وهذا يقوي قراءة من قرأ : " أئنك لمن المصدقين " بالتشديد .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار أبو حفص قال : سألت إسماعيل السدي عن هذه الآية : ( قال قائل منهم إني كان لي قرين . يقول أئنك لمن المصدقين ) ؟ قال : فقال لي : ما ذكرك هذا ؟ قلت : قرأته آنفا فأحببت أن أسألك عنه ؟ فقال : أما فاحفظ ، كان شريكان في بني إسرائيل ، أحدهما مؤمن والآخر كافر ، فافترقا على ستة آلاف دينار ، كل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار ، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا ، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به شيئا ؟ أتجرت به في شيء ؟ فقال له المؤمن : لا فما صنعت أنت ؟ فقال : اشتريت به أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا قال : فقال له المؤمن : أو فعلت ؟ قال : نعم . فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي ، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا بألف دينار ، ثم يموت غدا ويتركها ، اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا في الجنة . قال : ثم أصبح فقسمها في المساكين . قال : ثم مكثا ما شاء الله أن يمكثا ، ثم التقيا فقال الكافر [ ص: 18 ] للمؤمن : ما صنعت في مالك ، أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال : لا فما صنعت أنت . قال : كانت ضيعتي قد اشتد علي مؤنتها ، فاشتريت رقيقا بألف دينار ، يقومون بي فيها ، ويعملون لي فيها . فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم . قال : فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي ، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ، ثم قال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى رقيقا من رقيق الدنيا بألف دينار ، يموت غدا ويتركهم ، أو يموتون فيتركونه ، اللهم ، وإني أشتري منك بهذه الألف الدينار رقيقا في الجنة . ثم أصبح فقسمها في المساكين . قال : ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا ، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ؟ أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال لا فما صنعت أنت ؟ قال : أمري كله قد تم إلا شيئا واحدا ، فلانة قد مات عنها زوجها ، فأصدقتها ألف دينار ، فجاءتني بها ومثلها معها . فقال له المؤمن : أوفعلت ؟ قال : نعم . فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي ، فلما انصرف أخذ الألف الدينار الباقية ، فوضعها بين يديه ، وقال : اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - تزوج زوجة من أزواج الدنيا فيموت غدا فيتركها ، أو يموت فتتركه ، اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف الدينار حوراء عيناء في الجنة . ثم أصبح فقسمها بين المساكين . قال : فبقي المؤمن ليس عنده شيء . قال : فلبس قميصا من قطن ، وكساء من صوف ، ثم أخذ مرا فجعله على رقبته ، يعمل الشيء ويحفر الشيء بقوته . قال : فجاءه رجل فقال : يا عبد الله ، أتؤاجرني نفسك مشاهرة ، شهرا بشهر ، تقوم على دواب لي تعلفها وتكنس سرقينها ؟ قال : نعم . قال : فواجره نفسه مشاهرة ، شهرا بشهر ، يقوم على دوابه . قال : فكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه ، فإذا رأى منها دابة ضامرة ، أخذ برأسه فوجأ عنقه ، ثم يقول له : سرقت شعير هذه البارحة ؟ فلما رأى المؤمن هذه الشدة قال : لآتين شريكي الكافر ، فلأعملن في أرضه فيطعمني هذه الكسرة يوما ، ويكسوني هذين الثوبين إذا بليا . قال : فانطلق يريده ، فلما انتهى إلى بابه وهو ممس ، فإذا قصر مشيد في السماء ، وإذا حوله البوابون فقال لهم : استأذنوا لي صاحب هذا القصر فإنكم إذا فعلتم سره ذلك ، فقالوا له : انطلق إن كنت صادقا فنم في ناحية ، فإذا أصبحت فتعرض له . قال : فانطلق المؤمن ، فألقى نصف كسائه تحته ، ونصفه فوقه ، ثم نام . فلما أصبح أتى شريكه فتعرض له ، فخرج شريكه الكافر وهو راكب ، فلما رآه عرفه فوقف عليه وسلم عليه وصافحه ، ثم قال له : ألم تأخذ من المال مثل ما أخذت ؟ قال : بلى وهذه حالي وهذه حالك . قال : أخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : لا تسألني عنه . قال : فما جاء بك ؟ قال : جئت أعمل في أرضك هذه ، فتطعمني هذه الكسرة يوما بيوم ، وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا . قال : لا ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا ، ولكن لا ترى مني خيرا حتى تخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال : أقرضته : قال : من ؟ قال : المليء الوفي . قال : من ؟ قال : الله ربي . قال : وهو [ ص: 19 ] مصافحه فانتزع يده من يده ، ثم قال : ( أئنك لمن المصدقين . أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون ) - قال : محاسبون - قال : فانطلق الكافر وتركه . قال : فلما رآه المؤمن ليس يلوي عليه ، رجع وتركه ، يعيش المؤمن في شدة من الزمان ، ويعيش الكافر في رخاء من الزمان . قال : فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله المؤمن الجنة ، يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار ، فيقول : لمن هذا ؟ فيقال : هذا لك . فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو برقيق لا تحصى عدتهم ، فيقول : لمن هذا ؟ فيقال : هؤلاء لك . فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يمر فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة ، فيها حوراء عيناء ، فيقول : لمن هذه ؟ فيقال : هذه لك . فيقول : يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال : ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر فيقول : ( السدي إني كان لي قرين . يقول أئنك لمن المصدقين . أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون ) قال : فالجنة عالية ، والنار هاوية . قال : فيريه الله شريكه في وسط الجحيم ، من بين أهل النار ، فإذا رآه المؤمن عرفه ، فيقول ( تالله إن كدت لتردين . ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين . أفما نحن بميتين . إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين . إن هذا لهو الفوز العظيم . لمثل هذا فليعمل العاملون ) بمثل ما من عليه . قال : فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من الشدة ، فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة ، أشد عليه من الموت .