الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          1883 حدثنا قتيبة حدثنا محمد بن جعفر عن حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائما وقاعدا قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( حدثنا محمد بن جعفر ) هو المدني البصري المعروف بغندر ( عن حسين المعلم ) هو ابن ذكوان العوذي .

                                                                                                          قوله : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أي أبصرته حال كونه ( يشرب قائما ) أي مرة أو مرتين لبيان الجواز أو لمكان الضرورة ( وقاعدا ) أي في سائر أوقاته ، وأحاديث الباب كلها تدل على جواز الشرب قائما ، وأحاديث الباب المتقدم تدل على النهي عنه .

                                                                                                          قال الحافظ في الفتح : وسلك العلماء في ذلك مسالك أحدها الترجيح ، وأن أحاديث الجواز أثبت من أحاديث النهي ، وهذه طريقة أبي بكر الأثرم فقال حديث أنس يعني في النهي جيد الإسناد ، ولكن قد جاء عنه خلافه يعني في الجواز ، قال : ولا يلزم من كون الطريق إليه في النهي أثبت من الطريق إليه في الجواز أن لا يكون الذي يقابله أقوى لأن المتثبت قد يروي هو ومن دونه الشيء فيرجح عليه ، فقد رجح نافع على سالم في بعض الأحاديث عن ابن عمر وسالم مقدم على [ ص: 5 ] نافع في التثبت ، وقدم شريك على الثوري في حديثين ، وسفيان مقدم عليه في جملة أحاديث ، ثم أسند عن أبي هريرة قال لا بأس بالشرب قائما ، قال الأثرم : فدل على أن الرواية عنه في النهي ليست ثابتة وإلا لما قال لا بأس به قال : ويدل على هذه أحاديث النهي أيضا اتفاق العلماء على أنه ليس لأحد شرب قائما أن يستقيء .

                                                                                                          المسلك الثاني : دعوى النسخ وإليها جنح الأثرم وابن شاهين فقررا على أن أحاديث النهي على تقدير ثبوتها منسوخة بأحاديث الجواز بقرينة عمل الخلفاء الراشدين ومعظم الصحابة والتابعين بالجواز ، وقد عكس ذلك ابن حزم فادعى نسخ أحاديث الجواز بأحاديث النهي متمسكا بأن الجواز على وفق الأصل وأحاديث النهي مقررة لحكم الشرع ، فمن ادعى الجواز بعد النهي فعليه البيان فإن النسخ لا يثبت بالاحتمال ، وأجاب بعضهم بأن أحاديث الجواز متأخرة لما وقع منه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كما تقدم ذكره في حديث الباب عن ابن عباس ، وإذا كان ذلك الأخير من فعله صلى الله عليه وسلم دل على الجواز ويتأيد بفعل الخلفاء الراشدين بعده .

                                                                                                          المسلك الثالث : الجمع بين الخبرين بضرب من التأويل ، فقال أبو الفرج الثقفي : المراد بالقيام هنا المشي ، يقال : قام في الأمر إذا مشى فيه ، وقمت في حاجتي إذا سعيت فيها وقضيتها ، ومنه قوله تعالى : إلا ما دمت عليه قائما أو مواظبا بالمشي عليه ، وجنح الطحاوي إلى تأويل آخر وهو حمل النهي على من لم يسم عند شربه ، وهذا إن سلم له في بعض ألفاظ الأحاديث لم يسلم له في بقيتها ، وسلك آخرون في الجمع حمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه ، وأحاديث الجواز على بيانه ، وهي طريقة الخطابي وابن بطال في آخرين .

                                                                                                          قال الحافظ : وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها من الاعتراض ، وقد أشار الأثرم إلى ذلك أخيرا ، فقال إن ثبتت الكراهة حملت على الإرشاد والتأديب لا على التحريم ، وبذلك جزم الطبري وأيده بأنه لو كان جائزا ثم حرمه أو كان حراما ثم جوزه لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بيانا واضحا ، فلما تعارضت الأخبار بذلك جمعنا بينهما بهذا ، وقيل إن النهي عن ذلك إنما هو من جهة الطب مخافة وقوع ضرر به ، فإن الشرب قاعدا أمكن وأبعد من الشرق وحصول الوجع في الكبد أو الحلق ، وكل ذلك قد لا يأمن منه من شرب قائما ، انتهى كلام الحافظ .

                                                                                                          وقال النووي : الصواب أن النهي فيها محمول على كراهة التنزيه ، وأما شربه صلى الله عليه وسلم قائما فبيان للجواز فلا إشكال ولا تعارض ، وهذا الذي ذكرناه يتعين المصير إليه ، وأما من زعم نسخا أو غيره فقد غلط غلطا فاحشا ، وكيف يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بين الأحاديث لو ثبت [ ص: 6 ] التاريخ وأنى له بذلك ، فإن قيل : كيف يكون الشرب قائما مكروها وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فالجواب أن فعله صلى الله عليه وسلم إذا كان بيانا للجواز لا يكون مكروها ، بل البيان واجب عليه صلى الله عليه وسلم فكيف يكون مكروها ، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ، وطاف على بعير مع أن الإجماع على أن الوضوء ثلاثا ثلاثا ، والطواف ماشيا أكمل ، ونظائر هذا غير منحصرة ، فكان صلى الله عليه وسلم ينبه على جواز الشيء مرة أو مرات ويواظب على الأفضل منه ، وهكذا كان أكثر وضوئه ثلاثا ثلاثا ، وأكثر طوافه ماشيا ، وأكثر شربه جالسا ، وهذا واضح لا يتشكك فيه من له أدنى نسبة إلى علم .

                                                                                                          وأما قوله صلى الله عليه وسلم فمن نسي فليستقئ فمحمول على الاستحباب والندب ، فيستحب لمن شرب قائما أن يتقيأه لهذا الحديث الصحيح الصريح ، فإن الأمر إذا تعذر حمله على الوجوب حمل على الاستحباب ، وأما قول القاضي عياض : لا خلاف بين أهل العلم أن من شرب ناسيا ليس عليه أن يتقيأ فأشار بذلك إلى تضعيف الحديث فلا يلتفت إلى إشارته ، وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاء لا يمنع كونها مستحبة ، فإن ادعى مدع منع الاستحباب فهو مجازف لا يلتفت إليه ، فمن أين له الإجماع على منع الاستحباب ؟ وكيف تترك هذه السنة الصحيحة الصريحة بالتوهمات والدعاوى والترهات ؟ ثم اعلم أنه تستحب الاستقاءة لمن شرب قائما ناسيا ومتعمدا ، وذكر الناسي في الحديث ليس المراد به أن القاصد يخالفه بل للتنبيه به على غيره بطريق الأولى لأنه إذا أمر بالناسي وهو غير مخاطب فالعامد المخاطب المكلف الأولى ، وهذا واضح لا شك فيه .




                                                                                                          الخدمات العلمية