جمهور المفسرين جعلوا الخطاب موجها إلى المشركين ، فيكون الكلام اعتراضا خوطب به المشركون في خلال خطبات المسلمين بمناسبة قوله " ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين " والخطاب التفات من طريق الغيبة الذي اقتضاه قوله " وأن الله موهن كيد الكافرين " وذكر المفسرون في سبب نزولها أن أبا جهل وأصحابه لما أزمعوا الخروج إلى بدر استنصروا الله تجاه الكعبة ، وأنهم قبل أن يشرعوا في القتال يوم بدر استنصروا الله أيضا وقالوا : ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه ، فخوطبوا بأن قد جاءهم الفتح على سبيل التهكم أي الفتح الذي هو نصر المسلمين عليهم .
وإنما كان تهكما لأن في معنى " جاءكم الفتح " استعارة المجيء للحصول عندهم تشبيها بمجيء المنجد لأن جعل الفتح جاءيا إياهم يقتضي أن النصر كان في جانبهم ولمنفعتهم ، والواقع يخالف ذلك ، فعلم أن الخبر مستعمل في التهكم بقرينة مخالفته الواقع بمسمع المخاطبين ومرآهم .
وحمل ابن عطية فعل جاءكم على معنى : فقد تبين لكم النصر ورأيتموه أنه [ ص: 299 ] عليكم لا لكم ، وعلى هذا يكون المجيء بمعنى الظهور : مثل " وجاء ربك " ومثل " جاء الحق وزهق الباطل " ولا يكون في الكلام تهكم .
وصيغ " تستفتحوا " بصيغة المضارع مع أن الفعل مضى لقصد استحضار الحالة من تكريرهم الدعاء بالنصر على المسلمين ، وبذلك تظهر مناسبة عطف " وإن تنتهوا فهو خير لكم " إلى قوله " وأن الله مع المؤمنين " أي تنتهوا عن كفركم بعد ظهور الحق في جانب المسلمين .
وعطف الوعيد على ذلك بقوله " وإن تعودوا نعد " أي : إن تعودوا إلى العناد والقتال نعد ، أي نعد إلى هزمكم كما فعلنا بكم يوم بدر .
ثم أيأسهم من الانتصار في المستقبل كله بقوله " ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت " أي لا تنفعكم جماعتكم على كثرتها كما لم تغن عنكم يوم بدر ، فإن المشركين كانوا يومئذ واثقين بالنصر على المسلمين لكثرة عددهم وعددهم . والظاهر أن جملة " إن " " وإن تعودوا " معطوفة على جملة الجزاء وهي " فقد جاءكم الفتح " .
و لو اتصالية أي لن تغني عنكم في حال من الأحوال ولو كانت في حال كثرة على فئة أعدائكم ، وصاحب الحال المقترنة بلو الاتصالية قد يكون متصفا بمضمونها ، وقد يكون متصفا بنقيضه ، فإن كان المراد من العود في قوله " وإن تعودوا " العود إلى طلب النصر للمحق فالمعنى واضح ، وإن كان المراد منه العود إلى محاربة المسلمين فقد يشكل بأن المشركين انتصروا على المسلمين يوم أحد فلم يتحقق معنى " نعد " ولا موقع لجملة " ولن تغني عنكم فئتكم " فإن فئتهم أغنت عنهم يوم أحد .
والجواب عن هذا الإشكال أن الشرط لم يكن بأداة شرط مما يفيد العموم مثل " مهما " فلا يبطله تخلف حصول مضمون الجزاء عن حصول الشرط في مرة ، أو نقول إن الله قضى للمسلمين بالنصر يوم أحد ونصرهم وعلم المشركون أنهم قد غلبوا ثم دارت الهزيمة على المسلمين لأنهم لم يمتثلوا لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبرحوا عن الموضع الذي أمرهم أن لا يبرحوا عنه طلبا للغنيمة فعوقبوا بالهزيمة كما قال " وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله " وقال " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا " . وقد مضى ذلك في سورة آل [ ص: 300 ] عمران ، وبعد ففي هذا الوعيد بشارة بأن النصر الحاسم سيكون للمسلمين وهو نصر يوم فتح مكة .
وجملة " وأن الله مع المؤمنين " على هذا التفسير زيادة في تأييس المشركين من النصر ، وتنويه بفضل المؤمنين بأن النصر الذي انتصروه هو من الله لا بأسبابهم فإنهم دون المشركين عددا وعدة .
ومن المفسرين من جعل الخطاب بهذه الآية للمسلمين ، ونسب إلى أبي بن كعب وعطاء ، لكون خطاب المشركين بعد الهجرة قد صار نادرا لأنهم أصبحوا بعداء عن سماع القرآن ، فتكون الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا فإنهم لما ذكروا باستجابة دعائهم بقوله " إذ تستغيثون ربكم " الآيات ، وأمروا بالثبات للمشركين ، وذكروا بنصر الله - تعالى - إياهم يوم بدر بقوله " فلم تقتلوهم " إلى قوله " موهن كيد الكافرين " كان ذلك كله يثير سؤالا يختلج في نفوسهم أن يقولوا : أيكون كذلك شأننا كلما جاهدنا أم هذه مزية لوقعة بدر ، فكانت هذه الآية مفيدة جواب هذا التساؤل .
فالمعنى : ( إن تستنصروا في ) المستقبل قوله ( فقد جاءكم الفتح ) ، والتعبير بالفعل الماضي في جواب الشرط للتنبيه على تحقيق وقوعه ، ويكون قوله " فقد جاءكم الفتح " دليلا على كلام محذوف ، والتقدير : إن تستنصروا في المستقبل ننصركم فقد نصرناكم يوم بدر .
والاستفتاح على هذا التفسير كناية عن الخروج للجهاد ، لأن ذلك يستلزم طلب النصر ، ومعنى " وإن تنتهوا فهو خير لكم " أي إن تمسكوا عن الجهاد حيث لا يتعين فهو أي الإمساك خير لكم لتستجمعوا قوتكم وأعدادكم ، فأنتم في حال الجهاد منتصرون ، وفي حال السلم قائمون بأمر الدين وتدبير شئونكم الصالحة ، فيكون كقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - . وقيل المراد : وإن تنتهوا عن التشاجر في أمر الغنيمة أو عن التفاخر بانتصاركم يوم لا تمنوا لقاء العدو بدر فهو خير لكم من وقوعه .
وأما قوله " وإن تعودوا نعد " على هذا التفسير فهو إن تعودوا إلى طلب النصر نعد فننصركم أي لا ينقص ذلك من عطائنا كما قال زهير :
سألنا فأعطيتم وعدنا فعدتم ومن أكثر التسآل يوما سيحرم
فموقع قوله " ولن تغني عنكم فئتكم شيئا " بمنزلة التعليل لتعليق مجيء الفتح على أن تستفتحوا المشعر بأن النصر غير مضمون الحصول إلا إذا استنصروا بالله - تعالى - وجملة " ولو كثرت " في موضع الحال . و " لو " إتصالية ، وصاحب الحال متصف بضد مضمونها ، أي : ولو كثرت فكيف وفئتكم قليلة ، وعلى هذا الوجه يكون في قوله " وأن الله مع المؤمنين " إظهار في مقام الإضمار ، لأن مقتضى الظاهر أن يقال : وإن الله معكم ، فعدل إلى الاسم الظاهر للإيماء إلى أن سبب عناية الله بهم هو إيمانهم . فهذان تفسيران للآية ، والوجدان يكون كلاهما مرادا .
والفتح حقيقته إزالة شيء مجعول حاجزا دون شيء آخر ، حفظا له من الضياع أو الافتكاك والسرقة ، فالجدار حاجز ، والباب حاجز ، والسد حاجز ، والصندوق حاجز ، والعدل تجعل فيه الثياب والمتاع حاجز ، فإذا أزيل الحاجز أو فرج فيه فرجة يسلك منها إلى المحجوز سميت تلك الإزالة فتحا ، وذلك هو المعنى الحقيقي ، إذ هو المعنى الذي لا يخلو عن اعتباره جميع استعمال مادة الفتح ، وهو بهذا المعنى يستعار لإعطاء الشيء العزيز النوال استعارة مفردة أو تمثيلية ، وقد تقدم عند قوله - تعالى - " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء " وقوله - تعالى - " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات " الآية في سورة الأعراف ، فالاستفتاح هنا طلب الفتح أي النصر ، والمعنى إن تستنصروا الله فقد جاءكم النصر .
وكثر إطلاق الفتح على حلول قوم بأرض أو بلد غيرهم في حرب أو غارة ، وعلى النصر ، وعلى الحكم ، وعلى معان أخر ، على وجه المجاز أو الكناية ، وقوله " وأن الله مع المؤمنين " وقرأه نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، بفتح همزة أن على تقدير لام التعليل عطفا على قوله " وأن الله موهن كيد الكافرين " .
وقرأه الباقون بكسر الهمزة ، فهو تذييل للآية في معنى التعليل ، لأن التذييل لما فيه من العموم يصلح لإفادة تعليل المذيل ، لأنه بمنزلة المقدمة الكبرى للمقدمة الصغرى .